دروس الأزمة الروسية الأوكرانية

14 مارس 2022آخر تحديث : الإثنين 14 مارس 2022 - 6:11 مساءً
admintest
كتاب وآراء
دروس الأزمة الروسية الأوكرانية

عزيز لعويسي

ما تعرفه العلاقات الروسية الأوكرانية من توتر خطير غير مسبوق، يصعب فهمه دون استحضار واقع جيوسياسي يتقاطع فيه التاريخي بالاقتصادي والأمني بالاستراتيجي، لكن ما هو ثابت ومؤكد أن ما يحدث في المسرح الأوربي من توتر ومن دق لطبول الحرب ومن وعد ووعيد ومن استعراض للقوة والتهديد، يذكر بالظروف العامة التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى لما أقدم طالب صربي على اغتيال ولي عهد النمسا أثناء زيارته لسراييفو بالبوسنة، والحرب العالمية الثانية، لما اجتاح الجيش النازي التراب البولوني، ولا يفصلنا عن حرب عالمية ثالثة، إلا دخول طرف أو أطراف أخرى على خط المواجهة العسكرية لدعم هذا الطرف أو ذاك، وهذا ما لا نتمناه باسم لغة الإنسانية التي تجمعنا وتستوعبنا بكل اختلافاتنا وتناقضاتنا.

لكن وعلى الرغم من اختلاف السياقات تاريخية كانت أو جيوسياسية، فما هو باد للعيان، أن الأزمة الروسية الأوكرانية، ستحمل الكثير من الدمار والمآسي الإنسانية، على غرار ما وقع في دول عربية إسلامية من قبيل أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وفلسطين …، كما ستحمل تداعيات متعددة المستويات على الاقتصاد العالمي، بالموازاة مع دورها في إحداث جملة من المتغيرات الجيوسياسية، من شأنها زحزحة النظام العالمي القائم، والتمهيد لتشكيل ملامح نظام عالمي جديد، لا أحد يتوقع هويته ولا امتداداته، خاصة في ظل استمرارية لغة السلاح ورفع الغرب يافطة العقوبات على موسكو وانسداد أفق التفاوض والسلام. وإذا ما تركنا لغة الجيوبوليتيك جانبا وابتعدنا عن لعبة التوازنات الجيواستراتيجية، فإن الأزمة الروسية الأوكرانية القائمة، ترخي بكل تداعياتها على المغرب، ليس فقط من منطلقات اقتصادية صرفة، بل ولما تتيحه من دروس، تقتضي تعاملا براغماتيا مع الأزمة القائمة، ورؤية استراتيجية تستحضر المستقبل، في ظل ما يعرفه النظام العالمي من متغيرات جيواستراتيجية.

وفي هذا الإطار، نرى أن أول درس ينبغي حفظه عن ظهر قلب، هو الرهان على دبلوماسية رصينة قائمة على “الحياد” و”التوازن” و”الحكمة” و”التبصر” و”الواقعية” و”البراغماتية”، بالشكل الذي يخدم قضايانا المصيرية والاستراتيجية، وثاني درس يرتبط بتنويع الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية، دون الوقوع تحت تأثير أية دولة أو جهة من الجهات، ولنا عبرة في أوكرانيا التي جنحت بشكل حماسي نحو الغرب، لكن الغرب لم يجنح لها وهي تحت رحمة القصف الروسي منذ ثلاثة أسابيع.

الدرس الثالث، يفرض استحضار أن الرهان على الخارج فيما يتعلق بتأمين الغذاء، لايمكن أن يكون إلا رهانا خاسرا فاقدا للروية المتبصرة، ليس فقط في ظل الحرب القائمة في أوكرانيا أو الحروب المحتملة هنا وهناك، بل واعتبارا للتهديدات البيولوجية وما قد يرتبط بها من أزمات وبائية وصحية، كما حصل مع جائحة كورونا، التي برز معها هاجس الأمن الغذائي، وهذه المعطيات، تدعو صناع القرار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي داخل الوطن، إلى استعجال ثورة ناعمة في المجال الفلاحي تستحضر ما يجري في العالم من حروب وأزمات مهددة للأمن الغذائي، وتراعي المتغيرات المناخية القائمة في ظل سيادة حالة الجفاف وشح التساقطات، بما يضمن ليس فقط، تحقيق الاكتفاء الذاتي في زراعة الحبوب، بل وإدراك مخزون استراتيجي من الحبوب، يمكن الرهان عليه في اللحظات الصعبة والعسيرة والأزمات الفجائية.

أما الدرس الرابع، فيستوجب توجيه البوصلة نحو قطاع الطاقة، في ظل الارتفاع المهول في أسعار البترول والغاز عبر العالم، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، بكل ما لذلك من تداعيات مباشرة على ميزانية الدولة وخاصة على مستوى عيش المواطن، وهذا يفـرض الاستمرار في البحث والتنقيب عن مصادر الطاقة والمعادن، كما يفرض استمرار الرهان على الطاقات النظيفة وخاصة الشمسية والريحية، للتخفيف من حدة التبعية للخارج فيما يتعلق بالطاقة، وبين هذا وذاك، لابد من التحرك لإيجاد الحلول القضائية الممكنة لشركة “سامير”، والمضي قدما نحو تطهير قطاع المحروقات من كل مشاهد العبث والجشع والاحتكار ومن كل الممارسات الماسة بحرية الأسعار والمنافسة، من أجل إرساء منظومة طاقية “مواطنة” قادرة على رفع التحديات الآنية والمستقبلية.

الدرس الخامس يسائل منظومة التعليم العالي بالمغرب، ذلك أنه وباشتعال فتيل الحرب الروسية الأوكرانية، برز ملف الطلبة المغاربة الذين يدرسون في أوكرانيا في تخصصات كالطب والصيدلة والهندسة، بكل ما تتحمله أسرهم من تكاليف مادية ذات صلة بمصاريف التمدرس والسكن والعيش، وفي هذا الإطار، وبقدر ما نثمن المجهودات التي قامت بها السلطات المغربية في سبيل إجلاء هؤلاء الطلبة المغاربة من أوكرانيا، بقدر ما نلح على ضرورة الارتقاء بمستوى المنظومة التعليمية على مستوى المناهج والبرامج خاصة التعليم العالي، الذي لابد أن يكون ميسرا ومتاحا لجميع الطلبة المغاربة، ليس فقط حرصا على الحق في التعلم والتكوين، بل ورحمة ورأفة بالكثير من الأسر المغربية التي تتحمل أعباء دراسة أبنائها في دول أوربية على رأسها أوكرانيا وروسيا، وفي ذات الآن، نرى أن الارتقاء بمستوى منظومة التعليم العالي على مستوى المناهج والبرامج والتخصصات والاختيارات وبنيات الاستقبال، من شأنه أن يحول المغرب إلى وجهة دراسية جذابة بالنسبة للكثير من الطلبة العرب والأفارقة وربما حتى الأوربيين، بكل ما لذلك من آثار مادية وسياحية ودبلوماسية وإشعاعية.

أما الدرس السادس، فيفرض تطوير القدرات الذاتية على المستوى الأمني والعسكري والاستخباراتي، والانكباب على وضع لبنات صناعة عسكرية وطنية، تخفف من وطأة التبعية للخارج على مستوى التزود بالسلاح، موازاة مع مواصلة الانخراط في علاقات وتحالفات جيواستراتيجية وازنة قائمة على التنويع والتوازن، حرصا على قضايانا الوطنية والاستراتيجية، وفي هذا الإطار، وبقدر ما نثمن ما حققته الدبلوماسية المغربية من مكاسب ذات صلة بدعم قضية الصحراء المغربية، بقدر ما نرى أن خدمة القضية الوطنية والمصالح العليا للوطن، لابد أن تمر أولا عبر تطوير القدرات الذاتية العسكرية والأمنية والاستخباراتية، لأن الرهان على دولة عظمى أو الاتكال على جهة من الجهات لحماية الوحدة الترابية، يبقى رهانا هشا إن لم نقل خاسرا كما يحدث الآن مع أوكرانيا في علاقتها بالغرب.

وفي الختام، فالدروس المشار إليها سلفا، وإن اختلفت مضامينها واتجاهاتها، فهي تتقاطع حول ضرورة الانكباب على تطوير القدرات الذاتية على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية والصحية والتربوية والإعلامية، وحسن استثمار علاقاتنا الاقتصادية والاستراتيجية مع عدد من الشركاء، بما يضمن إدراك أو بلوغ ما يمكن توصيفه بالمناعة الذاتية، القادرة على تذويب جليد التبعية للخارج وتحقيق شروط استقلالية القرار، بالموازاة مع الحرص على إرساء لبنات جبهة داخلية متناغمة ومتجانسة وعلى بناء مؤسسات قوية “مواطنة” وذات مصداقية، قادرة على الترافع عن مصالح الوطن وقضاياه المصيرية، مع ضرورة الرهان التنمية الشاملة وعلى سياسة محاربة الفساد بكل تمظهراته وربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، والتأسيس لمجتمع الحق والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية والمجالية، وقبل هذا وذاك، استعجال تنزيل إصلاح حقيقي لمنظومة التربية والتكوين بدون خلفيات أو هواجس مادية، لأن فاتورة الجهل أقسى وأخطر على الوطن، ومن يربط إصلاح التعليم بلغة الحساب وبمنطق الربح والخسارة، ندعوه لتأمل ما حدث في المجمع الرياضي الأمير مولاي عبدالله نهاية الأسبوع، من شغب وفوضى وعنف وتخريب وتعييب، فليس بمثل هؤلاء نحمي البلد ونصون بيضة الوطن …

الاخبار العاجلة