الصوفيون في بلاد سوس(4/4)

19 مارس 2024آخر تحديث : الإثنين 18 مارس 2024 - 10:18 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
الصوفيون في بلاد سوس(4/4)

ذاكرة روحية وسياسية وعلمية

ذ. محمد بادرة

تزخر الذاكرة الجماعية في كل انحاء سوس ودرعة وفي كل المناطق الاخرى من المغرب بتواتر وتوارث الحكي الشفاهي والتاريخ المحلي عن الاولياء ورجال الصوفية الذين لا ينازع احد عن ادوارهم الاجتماعية والسياسية والروحية حتى ان رباطاهم وزواياهم وبيوتهم اصبحت اماكن مقدسة يحج المضطهدون والمحاربون والمجاهدون والمرضى والمستضعفون اليها .. بل وحتى الاعيان واكابر القوم ورجال المخزن وغيرهم كان لهم مقام واحترام داخل هذه الفضاءات الروحية المسيجة بالقداسة والاطمئنان الروحي .. ونظرا للقيمة المعنوية والروحية لهذه الاماكن” المقدسة” فانه يحرم فيها القتال والحرب والخصام ويحرم فيها التواطؤ والخيانة والاحتيال وتشيد بجوارها المخازن (اكودار) والمدارس الدينية العتيقة وتقام بالقرب منها الاسواق والمواسم وتمر على جنبها المسالك والطرقات حتى تمر كل التعاقدات والمعاهدات والمعاملات في ظروف سليمة وسالمة وفق شروط مطابقة للأعراف القبلية (ازرفان) والتقاليد المتوارثة شرعا وعرفا…
ومن شيوخ التصوف ورجالاتها البارزين في سوس:
الشيخ محمد الحبيب التنالتي – المجاهد في سبيل الدين والوطن
هو محمد الحبيب بن ابراهيم بن عبدالله الادريسي نسبا البوشواري اصلا الميلكي الهشتوكي مولدا التنالتي مقاما. ولد حوالي 1866م بقبيلة ايت ميلك احدى قبائل هشتوكة حفظ القرءان الكريم على يد تلة من الفقهاء الاجلاء امثال محمد بن عبد السلام الميلكي ومحمد بن العربي المزالي اتقن قراءات ورش وقالون والمكي ثم بعد هذه المرحلة من القراءات القرآنية والحفظ التام لها شد الرحال في طلب العلم الى جهات كثيرة ولقد درس في سوس على يد العربي بن ابراهيم الصوابي والحاج عابد البوشواري وفي مراكش درس وقرا على يد العلماء من امثال الطاهر بن محمد الهشتوكي واحمد الجشتيمي ومحمد بن ابراهيم السباعي وفي تزنيت على يد الشيخ ماء العينين ثم بعده على يد ابنه المجاهد احمد الهيبة واخويه الشيخين النعمة ومربيه ربه.
بعد الانتهاء من التحصيل والتعليم والعلم والاصلاح والارشاد نبغ اسمه في درب الجهاد في سبيل الدين والوطن وقرر العزوف عن الزواج ليكرس نفسه وحياته للتدريس في المدارس العلمية العتيقة لكن ما لا يعرفه الكثير ان هذا الشيخ الجليل قد هب للجهاد ضد المستعمر الفرنسي فكان من ضمن العلماء المشاهير في سوس الذين شاركوا في حركة احمد الهيبة ماء العينين وتقدم المجاهدين الهشتوكيين الذين لبوا دعوته لينظم الى هذه الحركة في تزنيت ويصاحب الشيخ احمد الهيبة الى مراكش بعد ان بايعه العلماء ليتولى رئاسة الجهاد امثال الشيخ المحفوظ الادوزي والفقيه محمد بن احمد الاكراري والاديبين الطاهر بن محمد الافراني والبشير بن المدني الناصري والشيخ محمد اعبو ولقد كان الشيخ محمد الحبيب في هذه الفترة مستشارا خاصا لأحمد الهيبة ماء العينين.
بعد معركة سيدي بوعثمان مع المستعمر الفرنسي عاد المجاهدون الى سوس وتوجه الشيخ محمد الحبيب الى مدرسة تنالت التابعة لقبيلة ايت صواب ليواصل مقاومته وجهاده ضد الغزو الاجنبي ويؤازر الشيخ احمد الهيبة ويعبئ السكان ويوعيهم ضد المستعمر الغاصب كما جاهد في سبيل نشر الاصلاح والصلاح وتعليم قواعد الدين والشريعة الاسلامية.
وحين قام لزيارة الديار المقدسة استطاع ان يتصل بعلماء ورجال المشرق فاخذ عن الشيخ محمد بن جعفر الكتاني والشيخ يوسف بن اسماعيل النبهان والشيخ عمر حمدان التونسي وعمق معارفه العلمية والدينية اثناء زيارته لدمشق ولبنان واسطامبول فتلقى من علمائها ومشايخها كل علوم الفقه والنحو والآداب والتفسير والحديث والمنطق والبيان والحساب والسير والتاريخ فاصبح اية في العلم والمعرفة.
وحين عودته الى مدرسته وزاويته وجد كل الحواضر والقرى في سوس محتلة بكاملها من قوتين استعماريتين هما فرنسا واسبانيا لكنه واجه هذه القوات الغاشمة بإذكاء حماس رجال المقاومة وتعزيز صمودهم فحوصر وطورد الشيخ من قبيلة ايت صواب ليلتجا مؤقتا الى منطقة ايت بعمران وهناك عاش مدة قصيرة كمعارض للمستعمر منفي عن موطنه تم توجه الى المشرق لأداء فريضة الحج للمرة الثانية ولما عاد سمح له بالرجوع الى بلدته لمتابعة عمله في القيام بالتعليم فرجع الى تنالت من جديد وحول مدرستها الى مركز اشعاع علمي وثقافي ومركز ارشاد وتوعية واستمر ذلك زهاء ستين سنة من حياته.
تخرجت على يد الشيخ الحاج محمد الحبيب التنالتي افواج كثيرة من المتعلمين على اختلاف مستوياتهم ووضعهم الاجتماعي منهم العلماء والفقهاء والمحدثون انتشروا في كل المدارس العتيقة والعصرية ومنهم التجار والموظفين والعمال والفلاحين وكان عدد الطلبة في مدرسته يتجاوزون المائتين وعدد بيوت الاقامة اكثر من 120 غرفة وتموين هؤلاء الطلبة تقوم به القبيلة من قسط الاعشار والهبات وتعرف هذه المدرسة كذلك باسم (تاركا ازناكن) الصوابية وتقع على هضبة عالية ازاء سوق اربعاء تنالت وفي السنوات الاخيرة حظيت باهتمام خاص من طرف العامة والخاصة ومن طرف المؤسسات الرسمية لما تلعبه من دور في التأطير الاجتماعي والتكوين الذاتي والتعليم الديني والاصلاح والارشاد الديني.
احمد بن موسى الجزولي نزيل تازروالت
التصوف المغربي هو قطعة حية من التصوف الاسلامي المشرقي والاندلسي والمحلي مما خلق لنا نموذجا صوفيا مغربيا اصيلا متنوعا وثريا ويعد جزءا من تاريخ الثقافة المغربية الاصيلة ومن ابرز نماذج هذا التصوف المغربي في سوس:
احمد بن موسى بن عيسى بن عمر بن ابي بكر.. وهو سملالي جزولي ونزيل تازروالت وهو من (شيوخ الطريقة والتربية وامام الجموع والافراد واشهر من ان يعرف به) واجمع علماء عصره واولياء وقته (على تقدمه واعترفوا انهم ما بلغوا موضع قدمه ولا سموا له غبارا)-مناقب ابي عبد الله محمد بن احمد الحضيكي الجزولي.
تروى عنه الكثير من الكرامات و”الخوارق” لكن ليس هنا محل سردها وعرضها وانما نكتفي باستعراض جزء يسير مما روي عنه من حكم وامثال:
جاء في كلامه عن الغلو والافراط ما رواه احمد بن الحسن المنوزي الحاكي لكثير من حكمه وكراماته.. قيل انه جاءه اعرابي فاكثر من تقبيل يده فقال له ( ان ترفع يدك عن الطعام وانت تشتهيه مأمور به شرعا يا اعربي قبل امره بالاقتصاد وعدم الافراط في المحبة لأنها قوت القلوب كما ان الطعام قوت البدن والغلو في كليهما مذموم) وهذا من بلاغته.
ولقد حذر من الغلو في التفكير لما امر يوما كاتبا في المجلس فقال له (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم )فكتبه ثم قال له اكتب (اياك اياك ان تأوي الى جبل عقلك فتكون من المغرقين كابن نوح )
وعن الحاجة الى معرفة الله قال (كم من رجل وصل الماء الى لحيته فمات بالعطش فقيل له كيف هذا؟ فقال يحتاج الى حكيم يعني به راسه فيشرب حتى يتروى اشارة الى احتياج الباحث عن معرفة الله تعالى والى من ينبهه اليها في اقرب الاشياء اليه وذلك نفسه)
ويقسم الالسنة الى ثلاثة اصناف:
(الالسنة ثلاثة لسان العلم ولسان الحقيقة ولسان الحق فلسان العلم ما يؤدي الى العلم بواسطته ولسان الحقيقة نور يقدفه الله تعالى في قلب الانسان ولسان الحق ليس اليه سبيل …)
وكان يوما يعظ الناس فرفع في كلامه المنادى المضاف فقال بعض من حضر في نفسه (كيف للشيخ ان يرفع المنادى.. اذن انه يجهل النحو..) فالتفت الشيخ اليه في الحال واعاد الكلمة بالنصب على المنادى وقال:
سبقني لساني وكان يعرب لفظة فيا ليته من موقف الحشر يسلم
فما ينفع الاعراب ان لم تكن تقي وما ضر ذا التقى لسان معجـــم
محمد بن ابراهيم التمنرتي
هو محمد بن ابراهيم بن عمرو بن طلحة الجزولي. وصفه احد اولاده انه (الشيخ العارف بالله والامام العالم المحقق الجامع بين علمي الشريعة والحقيقة ) ولد ببلدة فم الحصن ونشا فيها ثم جال في بلاد جزولة من اجل العلم والتعليم فتعلم منه الطلبة والحفظة وحتى الفقهاء ثم جال بعد ذلك في درعة بحواضرها وقراها لأجل التحصيل ونشر العلم وفيها وغيرها تولى الامامة في المساجد ونشر العلوم الشرعية لسنين عديدة حتى استنارت به بلاد جزولة وتولى القضاء وقصده المظلومين والمبعدين عن اوطانهم والفقراء والبسطاء حتى يرفع عنهم ظلم المتجبرين والفاسدين وهو ما سبب له الكثير من المحن. اشتهر بالشيخ السني الصوفي ويقول عنه الشيخ البعقيلي (الامام العالم شيخ الحقيقة وامام الطريقة المتبرك به حيا وميتا له قدم راسخ في العلم والعمل ولقد راينا له انواع من الكرامات والمكاشفات )
ومن بين ما روي عنه ان احد المعجبين اراد ان يقبل يد الشيخ التمنرتي فانكر عليه تقبيل اليد فقام اليه ابنه ابراهيم يلاطفه بالكلام ويذكره بجواز العلماء تقبيل يد الرجل الصالح والعالم للبركة لكن الشيخ نهرهم وقال لهم (اسكتوا عني رأيتم شيئا ولم تعرفوا المراد منه ..) واضاف قائلا (هناك مسالتان ان لم تقطعهما لست اعرفك ولا تعرفني: تقبيل اليد ولفظ سيدي فانهما محدثان في بلادنا والذي احدتهما في بلادنا سيدي الحسن بن عثمان التملي الذي جلبهما الينا من خارج قبائلنا واما الاشياخ الذين عرفناهم في بلادنا من الكراميين وابناء عبد العزيز في حجر بني عيسى والفقهاء برسموكة وسملالة وغيرهم فلا يذكرون الا لفظة “عمي الطالب فلان” ان كان اكبر من المتكلم وان كان قرينه او دونه فيذكره ب”الطالب فلان”)
كان الشيخ التمنرتي اماما مقدما في الفقه والعربية وتشد اليه الافاق والرحال لطلب العلم من جميع المناطق السوسية لأنه جمع بين علم الشريعة وعلم الحقيقة وبنى ببلده لطلبة العلم مساكن يأوون اليها واوصى بنيه ان لا يستقبلون ولا يأوون ثلاثة : قاتل النفس والعبد والهارب من السلطان – قائلا (ان ايواءهم من الفساد).
ان هؤلاء وغيرهم من شيوخ الصوفية في سوس كان لهم اثر كبير في توجيه وتلوين جميع مرافق الحياة واصبح الناس يلهجون بأدعيتهم واذكارهم في مناسبات عديدة وخصوصا اثناء مناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي كما كان لهم الفضل الكبير في بناء المدارس العتيقة وملاجئ يأوي اليها طلبة العلم والعجزة والفقراء فيجدون فيها الطعام والفراش وقد تنافس اهل الصوفية في هذه المظاهر الانسانية حتى اضطر الملوك والسلاطين الى المساهمة في تمويلها والعناية بها بل انهم ساهموا في تأسيس زوايا في الفلوات لإيواء عابري سبيل واوقفوا لها الاوقاف الوفيرة (عبد العزيز بنعبد الله ).

ذ. محمد بادرة

الاخبار العاجلة