نظام “أساسي” أم “مآسي”؟

17 أكتوبر 2023آخر تحديث : الثلاثاء 17 أكتوبر 2023 - 11:45 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
نظام “أساسي” أم “مآسي”؟

بقلم: عزيز لعويسي

مهما برعت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، في تعداد محاسن ومكاسب النظام الأساسي الجديد، ندعوها إلى تأمل ما أحدثه هذا النظام من إضرابات كاسحة، وحركات احتجاجية واسعة النطاق في صفوف عدد من الهيئات، ومنها هيئة التدريس، وفي طليعتها فئة أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، الذين خرجوا بخفي حنين، في نظام أساسي غاب فيه التحفيز والاعتراف والتقدير، وحضرت فيه المزيد من المهام والأعباء وما يصطف وراءها من عقاب؛

الوزارة الوصية على القطاع، تحاول ومن حقها ذلك، تلميع صورة ما نزلته من تدابير ومقتضيات في نظام “خرج من الخيمة مايل” وبات حاله كحال السارق أو الشفار الذي ينطبق عليه المثل الشعبي القائل “راه راه والغوت وراه”، والأساتذة الغاضبون في الأسلاك الثلاثة، يراهنون وهم مرغمون على ذلك، على النضال ولو كان في إطار طقوس “العبث” أو “الارتجال”، أو بطعم “الكاميكاز” أو بألم “سيزيف”، أملا في إسقاط مرسوم لم يثبت أقدامه بعد، في منظومة التشريع، بعدما تخلت عنهم نقابات، نابت عنهم في تدبير حوار ظلت الكولسة والكتمان عنوانه البارز، ليكون حاله كحال الجبل الذي تمخض فولد فأرا، طاردته الشغيلة التعليمية بكل ألوانها “بيت بيت” و”زنكة زنكة”؛

وفي هذا الإطار، ومهما حاولنا قراءة خريطة “النضال التعليمي”، الذي بات حاله كحال “الثور المطعون” الذي لا أحد يتوقع حركاته وردات أفعاله، ومهما اجتهدنا في قراءة فنجان النقابات التي دخلت مجتمعة في حالة من الصمت، الشبيه بالصمت الانتخابي، منذ أن استعجلت الوزارة الوصية، الكشف عن هوية المرسوم المثير للجدل، تاركة الشغيلة، تسبح بمفردها، في مسبح نضالي أولمبي، اختلطت فيه الأوراق والتوجهات والأهداف ما ظهر منها وما بطن، قبل أن تخرج إلى العلن، عبر إعادة تشغيل محركات البلاغات في الوقت “بدل الضائع”، ومهما عاتبنا الشغيلة التعليمية وخاصة فئة الثانوي التأهيلي، التي نؤاخذها على “أنانيتها المفرطة” و”عصبيتها” و”ركوضها وراء المصالح الضيقة”، و”تفككها” و”تشرذمها” إلى “فرق” و”شيع” و”مذاهب” و”اتجاهات”، وعلى سباتها “التمساحي” في اللحظات الحاسمة، التي كان يفترض أن تقرع فيها طبول النضال بعزيمة وإصرار، فما هو ثابت ومؤكد أن النظام الجديد الذي لا يحمل من الجدة إلا الاسم، فشل في أول اختبار له، بل وخرج من رحم الحوار المكتوم “أعوجا” و”أحولا” إذا ما جاز التوصيف، لأنه انتصر لهواجس مالية ومحاسباتية ضيقة، ولم ينتصر للإصلاح الذي لا يستقيم عوده، إلا بمن قال فيه الشاعر “كاد المعلم أن يكـــون رسولا”؛

الحقيقة “الغائبة” أو “المغيبة”، هي التداعيات المتعددة الزوايا لما يجري من نضال جارف في الساحة التعليمية، على على إيقاعات التعلمات ومحطات السنة الدراسية، وعلى مدرسة عمومية “ماقدها فيل زادوها فيلة”، باتت “بتتكلم ” لهجة احتقان ولغة إضراب، ولسان حالها يقول “إني أتنفس تحت الاحتقان .. إني أغرق أغرق” كما تغنى الراحل العندليب الأسمر في سنوات المجد والبهاء، وما لكل ذلك، من آثار مقلقة على المتعلمات والمتعلمين، الذين باتوا جزءا لا يتجزأ من لعبة “كر” و”فر” لا يملكون فيها ناقة ولا جمل؛

وزارة شكيب بن موسى “مهندس النموذج التنموي”، ومن باب المواطنة وزاوية الالتزام، واستحضارا لما للأزمة النضالية القائمة من تداعيات على المدرسة العمومية، ومن آثار على النظام العام والسلم الاجتماعي، لم يعد ممكنا ولا مقبولا أن تبقى مكتفية بلعب دور “الكومبارس” بعدما استعجلت بشكل عصي على الفهم والإدراك، عملية المصادقة على مرسوم النظام الأساسي ونشره بالجريدة الرسمية، ولابد لها أن تنصت إلى نبض الشارع التعليمي وتلتقط إشارات ما تعيشه جميع المؤسسات التعليمية على المستوى الوطني من وقفات واحتجاجات وإضرابات آخذة في التمدد، وذلك بعيدا عن لغة “التحدي” أو “الاستقواء” وبمعزل عن سياسة الأمر الواقع، وبإمكانها تدارك ما اعترى المرسوم المثير للجدل، من مظاهر الضعف والقصور والاعوجاج، إما عبر سلك مساطر التعديل لتدارك ما يمكن تداركه، أو على الأقل، الرهان على ما تتيحه مساطر التشريع، من حلول قانونية وتنظيمية، من شأنها التصويب والتجويد، تحقيقا لشروط المساواة والإنصاف والتحفيز على مستوى “التعويضات” و”ضبط المهام” و”التأطير”، و”الحماية الاجتماعية والنفسية والقانونية” وغيرها؛

في خاتمة المقال، يؤسفنا كممارسين، ما تعيشه المدرسة العمومية من احتقان طال أمده، ومن اضطراب مقلق في إيقاعات التعلم، وما تناسل في الآونة الأخيرة من “تنسيقيات” الكل فيها “يغني على ليـــلاه”، ويؤسفنا ثانيا، ونحن نتقاسم على غرار شرائح واسعة من المدرسات والمدرسين، الإحساس الجماعي بالتحقير والتبخيس وعدم الاعتراف، مقارنة مع فئات تعليمية أخــرى، ويؤسفنا ثالثا، أن ما تتبناه الوزارة الوصية على القطاع من مشاريع إصلاحية ذات تكلفة مادية باهظة، لم تنجح حتى اليوم، في تخليص المدرسة العمومية من جائحة الاحتقان، ولم تفلح في الارتقاء بالوضع الاعتباري للمهنة، مقارنة مع مهن ووظائف وقطاعات أخـــرى كالتعليم العالي والأطباء والممرضين والعدل والقضاء والمالية والشرطة وغيرها، ويؤسفنا رابعا وأخيرا، أن “المدرس/ة” بات “حيطا قصيرا، يتطاول ويتجرأ عليه القاصي قبل الداني، بل وأضحى ذاك “الحجام” الذي كلما سقطت “صومعة”، كلما ارتفعت الأصوات، مطالبة بتعليقه، على أمل يحضر العقل والتبصر والحكمة في أوساط من بيده الإسهام في تقديم الحل أو الحلول الممكنة، من حكومة وممثلي الأمة وجمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ وفعاليات تربوية واجتماعية، من أجل تجاوز هذه المحنة التعليمية، التي لم تعد تسر لا الممارسين ولا الناظرين ولا الزائرين، كما نأمل أن تكون العطلة البينية الجارية، فرصة للتحرك، ليس فقط إنقاذا للسنة الدراسية التي تعيش منذ أسابيع على وقع الاضطراب، بل لأن الإصلاح الحقيقي، هو ذاك الذي يمر عبر مدخل “المدرس/ة”، لأنه هو “المحرك” و”الدينامو” و”المفتاح” و”صمام الأمان” و”المهندس” لأي إصلاح واع ومسؤول ومتبصر، والقناة التي لامحيد عنها، لكسب رهانات التنمية الشاملة التي لا يمكن بلوغ مرماها، إلا بالتعليم العصري “المحفز” و”الموحد” و”المنصف” و”العادل”…

وإذا كان من اللازم تقديم إجابة على السؤال أعلاه، فلن نهدر زمنا أو نستنزف قدرة في البوح والاعتراف، لأن الجواب الحقيقي حضر في إضراب ومسيرة الخامس من شهر أكتوبر الجاري احتفاء باليوم العالمي للمدرس، وحضر ويحضر فيما تلا ذلك من أشكال احتجاجية لا أحد يعرف مستقرها ومنتهاها، وبين هذا وذاك، يحضر فيما تتقاسمه الشغيلة التعليمية بكل فئاتها ومنها فئة الثانوي التأهيلي، من مشاعر التذمر والقلق واليأس وفقدان الثقة وانسداد الأفق، في ظل نظام أساسي أتى مستعجلا، حاملا لأسرة التعليم ما لذ وطاب من المآسي والأعباء، في لحظة نضالية جماعية غير مسبوقة، تقوي الرغبة الجامحة في السؤال:

ما الجدوى من اعتماد نظام أساسي جديد ما لم يحسن من الأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية للشغيلة التعليمية؟ ما الدافع الذي جعل الوزارة الوصية تستعجل عملية المصادقة على مرسوم هذا النظام ونشره بالجريدة الرسمية، وهي تدرك حالة الغضب التي أثارها في أوساط الشغيلة التعليمية كما عبر عن ذلك إضراب ومسيرة الخامس من أكتوبر؟ ما قيمة تبني “خارطة طريق جديدة” و”مدرسة رائدة” و”نظام جديد”، في ظل تجاهل تام للوضع الاعتباري للمدرس/ة الذي يبقى المدخل الوحيد والأوحد للإصلاح؟ ألم يكن ممكنا، قراءة الشارع النضالي التعليمي، ومنح الحوار بشأن مشروع النظام الجديد المزيد من الوقت، بدل المجازفة واستعجال نشره بما حمله من هفوات، أججت مبكرا جمر الاحتقان؟ وكيف يمكن استيعاب لماذا تكون الحكومة سخية مع مهن وقطاعات أخرى، ولما يتعلق الأمر بالتعليم، تشهر سلاح “الأزمة” و”الميزانية” و”التوازنات المالية؟ لماذا راهنت الوزارة الوصية ومن ورائها النقابات المتحاورة على إثقال كاهل المدرس/ة بالمزيد من المهام والأعباء والمسؤوليات، وتكبيله بالعقوبات، ولم تراهن على تمكينه من كافة شروط الدعم والتحفيز والاعتراف والتقدير؟ أية حلول قانونية متاحة أمام الحكومة لتصحيح المسار، في ظل ديمومة الفعل النضالي وتداعياته المباشرة على سيرورة الموسم الدراسي وعلى إيقاعات التعلم ومختلف محطات السنة الدراسية؟ وأية مسؤولية يتحملها الرباعي النقابي في هذه المآسي؟ وأي دور يمكن أن يلعبه لاسترجاع الثقة وحفظ ماء الوجه، بعدما أساء التدبير والتقدير؟ وأية قدرة للنقابات برمتها، على الدفاع والترافع في “الوقت الضائع”، أخذا بعين الاعتبار حجم التنسيقيات التي تسيدت المشهد النضالي، في لحظة حرجة، تراجعت فيها النقابات إلى الخلف، تاركة جليدها يذوب تحت أشعة نضالية حارقة لم يسبق لها مثيل؟

الاخبار العاجلة