حديث “كورو- سياسي”

21 فبراير 2023آخر تحديث : الثلاثاء 21 فبراير 2023 - 10:34 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
حديث “كورو- سياسي”

بقلم: عزيز لعويسي

الإمبراطورة كورنا، وقبل أن ترحل، تركت لنا وصايا متعددة الزوايا ودروسا وعبرا متعددة الزوايا، تلامس قضايا ومواضيع شائكة، تسائل الإنسان في المشارق والمغارب، من قبيل “الحقيقة” و”الشك” و”الموت” و”الحياة” و”الرحيل” و”القوة” و”الضعف”، و”الحرية” و”الاعتقال” و”المرض” و”الآهات”، و”الصبر” و”التحمل” و”الالتزام” و”التهور” و”العبث”، و”القانون” و”السلطة” و”الدولة” و”الأنا” و”الآخر”، و”الواقع” والفكر” و”الوجود”، و”التضامن” و”الأنانية المفرطة” وغيرها…

حتى السياسة كان لها نصيب في قائمة وصايا ودروس وعبر الإمبراطورة كورنا ، لعل أبرزها أنها، فتحت عيون الساسة عن الحقيقة الغائبة أو التي يتم تغييبها وحجبها مع سبق الإصرار والترصد بلغة القانون الجنائي، وكشفت لمدبري الشأن العام، عن الأعطاب الاجتماعية وما يدور في فلكها من أوجاع ومحن ومآسي وآهات، ومنحتهم أكثر من فرصة للتحرك، في اتجاه تقديم الحلول الممكنة، التي ما كان لها أن تتيسر، لولا قوة وغطرسة هذه الإمبراطورة العنيدة، التي بعثرت أوراق العالم، بكباره وصغاره …

الإمبراطورة كورنا، وجهت أنظار العالم إلى “الغذاء” و”الدواء” بعدما جنحت جميع الدول إلى اتخاذ قرار الإغلاق، في سياقات أزمة وبائية عالمية غير مسبوقة، تلاشت فيها قيم الإنسانية وما تقتضيه من تضامن وتعاون وتعاضد، لتحضر محلها فيروسات الجشع البئيس وأوبئة الأنانية المفرطة، التي جعلت فقراء وبسطاء العالم، يقفون وجها لوجه أمام أزمة وبائية، وضعتهم في صلب مواجهة حقيقية أمام الجوع والموت والهلاك.

في ظل جائحة كورنا المشاكسة ورفيق دربها العنيد كوفيد، باتت الدول والحكومات خاصة المنتمية إلى مجموعة بلدان الجنوب، مطالبة بالانخراط في تفكير حقيقي ومتبصر، من أجل بلوغ الاكتفاء الذاتي وإدراك الاستقلالية عن الخارج، خاصة على مستوى الغذاء والدواء، استحضارا لما بات يعيشه عالم ما بعد كورنا وكوفيد، من مشاهد التوتر والقلق والترقب في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، ومن مظاهر الاحتجاج الاجتماعي، بسبب تدهور القدرة الشرائية، نتيجة الارتفاع غير المسبوق للأسعار عبر العالم، وهذا لن يتأتى إلا بالاستغلال الجيد للطاقات والقدرات والموارد الذاتية، والاستثمار الأمثل في العنصر البشري والتصدي لأعداء التنمية من الفاسدين والعابثين.

ما جرى ويجري في المغرب من احتجاجات اجتماعية حركتها حمى الارتفاع التي طالت عددا من المواد الاستهلاكية الأساسية، يؤكد بما لايدع مجالا للشك، أن مدبري الشأن العام، تناسوا بسرعة وصايا كورنا بعدما رحلت على مضض، أو لم يقدروا حجم وقيمة ما تركته خلفها من دروس وعبر في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والدين والتربية والأخـلاق، فعادت حليمة السياسة إلى عادتها القديمة، وعاد معها الساسة ينتجون نفس السلوك وذات الخطاب، دون أن يستوعبوا أن عالم ما بعد كورنا، لم يعد يقبل بالتردد والارتباك والتماطل والوعد والوعيد، والتعالي والاستقواء والإهانة والتحقير، والمساس بالحقوق والتطاول على الحريات…

المواطنات والمواطنون الذين خرجوا إلى الشوارع من أجل الاحتجاج، بعد أن انهارت قدراتهم الشرائية والمعيشية، بسبب جائحة الأسعار، يفرض ليس فقط دق ناقوس الخطر، استحضارا لتداعيات هذا الوضع الاجتماعي المقلق على السلم الاجتماعي والنظام العام، بل واستحضار وصايا ودروس وعبر الإمبراطورة كورنا، التي كشفت بقوة، عن عورة الأعطاب الاجتماعية القائمة، وعمق الإقصاء المستشري في عدد من الأوساط الاجتماعية، ودرجة التباينات السوسيواقتصادية والمجالية، وكان يفترض استشعار مخاطر هذا الواقع المأسوف عليه، باستعجال تنزيل سياسات عمومية داعمة للسلم الاجتماعي ومقوية للحمة الوطنية، ومكرسة للإحساس بالعدالة والكرامة والمساواة الاجتماعية، وتبني استراتيجيات واضحة في محاربة الفساد والريع والمتربصين بالمال العام، والتصدي الحازم لمعرقلي عجلة البناء والنماء والإشعاع، بشكل يقوي ثقة المواطنات والمواطنين في المؤسسات والقانون والقضاء …

وبقدر ما نعبر عن مشاعر القلق حيال ما يجري في المشهد الاجتماعي من مظاهر التوتر والقلق والاحتجاج واليأس وانسداد الأفق، وتقديرا لما لهذا الوضع، من تداعيات على السلم الاجتماعي، ومن آثار على تماسك الجبهة الداخلية، واستحضارا للرهانات التنموية والتحديات الخارجية المرتبطة بقضية الوحدة الترابية للمملكة، فالحكومة “الاجتماعية”، مطالبة بالتحرك على أكثر من مستوى، لضبط عقارب السوق، بشكل يسمح بعودة الأسعار إلى سالف عهدها، والتفكير في حلول مبدعة ومبتكرة، قادرة على دعم القدرة الشرائية للمواطنين، والانخراط في حوار اجتماعي مسؤول مع الفاعلين الاجتماعيين، يعجل برفع أجور الموظفين والأجراء في القطاعين العام والخاص، واتخاذ التدابير الضرورية، القادرة على النهوض بالاستثمار ومحاربة الفساد والريع والتهرب الضريبي وغير ذلك من ممارسات الفساد ونهب المال العام، والحد من أية سياسة عمومية، من شأنها المساس بالقدرة الشرائية أو تكريس ثقافة اليأس والإحباط، أو توسيع دائرة الفقر والهشاشة والإقصاء، ونقصد هنا “الإصلاح المرتقب لأنظمة التقاعد”، الذي سيرمـي بدون شك، شرائع واسعة من الموظفين وما يرتبط بهم من أسر، نحو في أحضان الفقر والهشاشة والإقصاء، إذا ما تم تنزيله حسب أهواء “الحكومة الاجتماعية”.

لا نطالب فقط باستعجال إحداث ما يشبه “الانفراج الاجتماعي” في سياق موسوم بالتوتر والتذمر والإحباط واليأس، بل والمضي قدما في اتجاه بلوغ “الاستقلالية” عن الخارج، على مستوى الغذاء” و”الدواء” و”الطاقة” و”الفلاحة” و”الصناعة” و”التكنولوجيا” وغيرها، وهذه المقاصد، تبقى ممكنة، إذا ما حضرت الوطنية الحقة وما يرتبط بها من “مسؤولية” و”تضحية” و”نزاهة” و”استقامة” و”نكران للذات” و”استحضار للصالح العام” و”إخلاص لله والوطن والملك” و”ارتباط وثيق بثوابت الأمة، في سلوك وممارسات الفاعلين السياسيين الذين يتحملون مسؤولية تدبير الشأن العام في أبعاده الوطنية والجهوية والمحلية.

وفي جميع الحالات، فالإمبراطورة كورنا بقدر ما لخبطت أوراق العالم، بقدر ما تركت خلفها، وصايا ورسائل ودروس وعبر، تحتاج إلى عقول نيرة تفكر وتبدع وتبتكر، وإلى سواعد أمينة، تبني الوطن بثقة ومسؤولية ووفاء وإخــلاص، عسى أن نكون جميعا خداما أوفياء ومخلصين لهذا الوطن البهي، الذي نتمناه على الدوام آمنا ومستقرا ومزدهرا ومشرقا وبهيا، تحت ظل الشعار الخالد “الله”..”الوطن” ..”الملك” …

ونختم المقال بالعودة إلى العنوان أعلاه، الذي قد يثير زوبعة من الغموض والإبهام في فنجان البعض، وقد يحرك ناعورة السؤال في ذهن البعض الآخر، وحتى نذيب جليد الإبهام والسؤال، نوضح أننا أحدثنا قرانا بين “كورنا” و”السياسة”، في محاولة لتنبيه صناع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلى ضرورة استحضار طقوس ويوميات كورنا، وحسن استيعاب ما تركته خلفها من وصايا ودروس وعبر، من أجل إنتاج خطاب سياسي مسؤول، وتنزيل سياسات عمومية ناجعة ومتبصرة، تليق بمغرب جديد نقر جميعا أنه لم يعد كمغرب الأمس …

الاخبار العاجلة