حديث الثلاثاء

21 نوفمبر 2023آخر تحديث : الثلاثاء 21 نوفمبر 2023 - 4:30 مساءً
admintest
كتاب وآراء
حديث الثلاثاء

بقلم: عزيز لعويسي

لم تكف الوقفات والاحتجاجات أمام الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والمديريات الإقليمية، ولم تشفع الإضرابات والمسيرات التي اخترقت شوارع العاصمة الرباط في أكثر من مناسبة، ولم تنفع صرخات وأصوات آباء وأمهات وأولياء أمور التلاميذ، ولم تجد نداءات عدد من الوجوه البرلمانية والحزبية والأكاديمية والفكرية والعلمية والإعلامية، بل ولم تكف حتى صرخات التلاميذ الصغار، الذين تحولوا بوعي أو بدونه، إلى مناضلين قبل الأوان، دفاعا عن حقهم المشروع في التعلم، لم تكف ولم تنفع ولم تجد، كل الدعوات والصرخات والنداءات، لدفع الحكومة، للتعامل الإيجابي مع ما يجري منذ أسابيع، من احتقان تعليمي طال أمده؛

ونحن نقترب من نهاية الطور الأول من الموسم الدراسي الجاري، نؤكد أن الحكومة، كان عليها، أن تتصرف بحكمة وعقل واستباقية، منذ مسيرة الخامس من شهر أكتوبر الماضي، التي تزامنت واليوم العالمي للمدرس، وأن تلتقط إشارات الإجماع المتعدد الزوايا الرافـض للمرسوم المثير للجدل، لكنها اختارت طريق “خليه يحتج”، وانحازت إلى مسلك التمويه والمناورة والتسويف، طمعا في ذوبان محتمل لجليد الاحتقان الذي أدخل المدرسة العمومية في حالة غير مسبوقة من الشلل؛

لكن، لا الجمر خمد، ولا الجليد ذاب، والنتيجة اتساع دائرة الرفض والسخط واليأس وانسداد الأفق في أوساط الشغيلة التعليمية بكل فئاتها، لتمتد نحو آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، وبدل استدراك أخطاء ســوء التقدير، والانخراط المسؤول في إيجاد المخرج الملائم، تم صب المزيد من الزيت على نار الاحتجاج، بإشهار ورقة الاقتطاع من الأجر، وبخروج بعض المسؤولين الحكوميين، خرجات فاقدة لأدنى شروط المسؤولية والجدية والتبصر، حملت معها “الحكرة”، لشغيلة تعليمية، اختارت سبيل النضال دفاعا عن الكرامة الضائعة، بل وحتى الحوار الذي حاولت الحكومة فتحه على مضض تحت ضغط النضال، لم يسلم من مفردات الاستقواء ولي الذراع، بعد ربطه بشرط عودة الأساتذة المحتجين إلى الأقسام، وهو ما لايستقيم لا شكلا ولا مضمونا؛

الحكومة لابد لها أن تدرك، أن الأمر لا يتعلق بمعركة حتى تسخر فيها ورقة كسر العظام أو الشيطنة والاتهام، ولا بعلاقة حب أعمى، حتى توظف فيها مشاعر العناد والتحدي وربما الانتقام، ولا حتى بحلبة ملاكمة، حتى تراهن على هزم الخصم، أو إسقاطه بالضربة القاضية في أولى الجـــولات، بعيدا عن الروح الرياضية، ولابد أن تعي أن المعركة النضالية القائمة، لم يعد مسموحا ولا مقبولا، التعامل معها البتة، بمنطق الربح والخسارة، أو بأسلوب الإخضاع والتركيع، لأن الخاسر الأكبر هو الوطن، الذي لا نتمناه إلا آمنا ومستقرا ومزدهرا وبهيا؛

سياسة “طارت معزة” أو “نحن أو لا أحد” أو “خليه يحتج”، لو تجاوزتها الحكومة مبكرا، كان بالإمكان تطويق الأزمة في المهد، وحماية زمن التعلم من خطر الهدر، وضمان حق التلاميذ في التعلم، ومنح الأساتذة ما يتطلعون إليه من كرامة واحترام واعتبار، وصون بيضة السلم الاجتماعي، والإسهام في خلق “بيئة مدرسية” آمنة ومستقرة، تضع المدرسة العمومية على سكـة الإصلاح الحقيقي، وقبل هذا وذاك، التجسيد الأمثل لمفهوم الدولة الاجتماعية، في قطاع استراتيجي، يعد ركيزة البناء وأساس النماء؛

والمطلوب اليوم من الحكومة، أن “تنعل الشيطان” إذا ما جاز التعبير، وتقطع مع خطاب العناد وكسر العظام والتحدي والاستفزاز، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بدون تمويه أو مناورة، لأن “المتهم” الرئيسي، هو “مرسوم” مثير للجدل “، ما كان له أن يثير كل هذا الرفض والجدل والاحتقان، لو لم يكن حاملا للحكرة وأخواتها، والضحية، “معلم” بات بئيسا “محكورا”، والقضية “نظام أساسي” من الخيمة خرج مايل، ومن يملك سلطة الحكم والقرار، لابد أن يكـــون مسؤولا وجادا ومتبصرا، يستحضر “الله” و”الوطن” و”الملك”، ويستشعر ضريبة الاستمرار في العناد والاستقواء والتحدي، ويفهم ويستوعب، ما وصلت إليه مهنة المدرس، من “حكرة”، مقارنة مع مهن ووظائف أخــرى…، وأي حكم عادل، لابد أن يمر ابتداء وانتهاء، عبر التخلي عن التمسك الأعمى، بمرسوم جدلي، لا يتطلب سوى إرادة حقيقية، تعبد الطريق نحو الحل النهائي، لأزمة تعليمية طال أمدها، ولاحتقان جارف، الوطن ليس في حاجة إليه…

نؤكد في خاتمة المقال، أن لا شيء تغير، منذ اللقاء الذي أجراه رئيس الحكومة مع النقابات التعليمية قبل أسابيع، فلا المرسوم علق أو سحب أو عدل أو نسخ، ولا ناعورة الإضراب توقفت، ولا المدرسة العمومية عادت لها الحياة، عدا خرجات عنترية أججت مشاعر الغضب والاحتقان، ووعود بالحل، ظلت معلقة حتى اليوم، أما فاتورة ما حدث ويحدث، فمن عناوينها البارزة: تقسيم أبناء المغاربة بين “ولاد العمومي” و “ولاد الخصوصي” و”تكريس التعليم الطبقي”، و”ضرب صورة المدرسة العمومية ورمزيتها المجتمعية”، و”تلميع صورة التعليم الخصوصي”، و”الرفع من منسوب الاحتقان المجتمعي في سياق اجتماعي صعب”، و”تحويل أجيال الغد إلى مناضلين قبل الأوان”، و”هدر للمال العام في إصلاح فاقد للبوصلة”، و”ضرب مكانة المعلم وقيمته الاعتبارية داخل المجتمع”، “وفقدان الثقة في الفاعل السياسي”، و”تهديد السلم الاجتماعي”، و”الإسهام في خلق بيئة مرتبكة، غير متناسبة، وما يقوده عاهل البلاد، من مسيرة تنموية مفتوحة، ذات بعد استراتيجي”…، أما الفاتورة التربوية والبيداغوجية، فيصعب تقدير آثارها على البلاد والعباد؛

وهذه الخسائر وغيرها، كان بالإمكان تفاديها، لو حضر العقل والحكمة والتبصر، وغابت “معزة” الحكومة، وما يرتبط بها من عناد وتحدي وكسر عظام واستعراض عضلات، على أمل أن تتنازل الحكومة عن كبريائها وعنادها، وتجد الحل الاستعجالي، القادر على بناء علاقات جديدة مع صناع العقول وبناة القيم وجنود الوطن الصامتين، قوامها “المحبة” و”الاحترام” و”التقدير” و”الاعتبار”…على أمل أن تفك “كبة الخيط” في أقرب الأوقات الممكنة، لأن الخاسر الأكبر هو الوطن وحده دون غيره، وليس حكومة عابرة ووزراء راحلون، بمنطق السياسة وسنة الحياة، مع ضرورة الإشارة، إلى أن مشاكل وأزمات كثيرة يمكن حلها، فقط بالجنوح نحو الحوار والمسؤولية والجدية و”المعقول” بلغة تامغرابيت، وحسن الإصغاء إلى نبض الشعب واحترام ذكاء المواطنين، أما سياسة “طارت معزة”، فهي عبث، لن يقبل به أحد، حتى الماعز.

الاخبار العاجلة