التعليم وطنجرة الاحتقان

23 نوفمبر 2023آخر تحديث : الخميس 23 نوفمبر 2023 - 7:32 مساءً
admintest
كتاب وآراء
التعليم وطنجرة الاحتقان

بقلم: عزيز لعويسي

قد نختلف في تشخيص الحراك التعليمي، وقد نهدر الكثير من الزمن، في تحديد السبب أو الأسباب، التي جعلت الحكومة، تتقاعس حتى اليوم، في تقديم الحل أو الحلول الممكنة، وقد نتفاوت في رصد تطورات الأزمة القائمة، وتقدير كلفتها التعليمية والتربوية والاجتماعية والسياسية والأمنية وغيرها، لكن الحقيقة التي لايمكن الجدل بشأنها، أن العام الدراسي بات على كف عفريت، على بعد أسابيع قليلة من نهاية الدورة الأولى، في غياب أية مبادرة أو وساطة، من شأنها الدفع في اتجاه الانفراج، والخروج الآمن من عنق زجاجة أزمة ساخنة، كان بالإمكان تفاديها، أو على الأقل، تطويقها مبكرا، لو حضرت الإرادة السياسية، وحضرت معها الجدية والمسؤولية والتبصر والتقدير، بعيدا عن “كوفيد” العناد والاستقواء والاستعلاء و”كسر العظام”؛

لا خيار ولابديل اليوم، لكبح جماح الاحتقان وتحرير المدرسة العمومية من حالة الشلل، إلا بتنازل الحكومة عن نظرتها التبخيسية لنساء ورجال التعليم، باعتبارهم محرك الإصلاح، والقناة التي لا محيد عنها، ليس فقط لكسب رهانات التنمية المأمولة، بل ولضمان الأمن بمفهومه الشامل، بدليل ما أحدثه ولازال يحدثه الحراك التعليمي من زوبعة اجتماعية وسياسية وتربوية وإعلامية وأمنية …، غير مسبوقة على الأقل في العقود الأخيرة، والتعجيل بسحب مرسوم الجدل، بما أنه هو أصل الداء، لبناء الثقة والتعبيرعن الجدية والمصداقية، والجلوس اللامشروط على طاولة الحوار والتفاوض، مع الفرقاء الاجتماعيين، بحضور ممثلين عن التنسيقيات، التي باتت شاء من شاء وأبى من أبى، لاعبا محوريا في أي حوار أو تفاوض مرتقب، بما يساعد على إعادة صياغة نظام أساسي جديد، وفق برمجة زمنية دقيقة، تحضر فيه فلسفة الاحترام والتقدير والتحفيز والاعتبار، بدل فلسفة التحكم والإهانة والتحقير والزجر والعقاب؛

ونذكر أن بعض التدابير والإجراءات، لا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية، ولا تكلف أية آثار مادية، من قبيل “المهام” التي وجب حصرها في مهمة التدريس، و”التراجع عن نظام العقوبات” والاكتفاء فقط، بما تم التنصيص عليه في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، و”تقليص ساعات العمل”، و”إرساء نظام مرن للترقي”، و”نزع صفة الإلزامية عن التكوين المستمر”، و”إعادة النظر في نظام تقييم الأداء المهني”، وهذه المجالات، هي التي كرست الإحساس الفردي والجمعي بالحكرة، وأسست لمعلم “مراقب” و”مقيد” و”محاصر” و”مشتبه فيه” و”مجرم” و”مدان”؛

أما الجانب المادي الذي أفاض كأس الاحتقان، وجمع نساء ورجال التعليم حول مائدة الرفض والسخط والاحتجاج، نؤكد انـه لم يعد ممكنا، أن يبقى المعلم، يتذيل قائمة سلم الأجــور وطنيا ودوليا، بكل ما يحمله ذلك من تفقير وتحقير وتجويع، علما أنه هو من علم القاضي والطبيب والمهندس والموظف والسياسي والوزير والبرلماني والإعلامي…، وهذه المكانة المنحطة، لا تشرف البلد ولا تليق بما يتطلع إليه من نهوض وبناء ونماء، ومن إشعاع إقليمي ودولي، لأن سمو الشعوب ورقي الأمم، يقاس بمدى احترامها وتقديرها لمن يعلم الأجيال ويصنع العقول ويبني القيم ويصون الأخلاق، ويحارب الجهل والظلام…

وعليه، فهي فرصة للمصالحة مع المعلمين، عبر الرفع من أجورهم وتمكينهم من التعويضات اللازمة، عن أية مهام، يضطلعون بها، خارج مهمة التدريس، وتجويد بيئة عملهم، عبر بنيات استقبال لائقة ووسائل عمل محفزة ومناهج وبرامج عصرية وطرائق حديثة، وتخليصهم من جائحة “الاكتظاظ” الذي بات لا يطاق، وإحاطتهم بكافة الضمانات القانونية والإدارية، وكلها مداخل حقيقية للجودة والريادة والتميز والإبداع والابتكار، لأن المعلم الذي يحس بالحكرة والغبن، ويشتغل في مدارس فاقدة لأدنى شروط الجاذبية، ومحاصر بالقروض، ويتسول بين المدارس الخصوصية ومراكز الدعم بحثا عن فرصة عمل، وبات يعي أكثر من أي وقت مضى، أنه مجرد “حائط صغير” يتجرأ عليه الجميع وتعلق عليه كل الإخفاقات، لــن نحقق به جودة ولا ريادة، ولو وضعنا أمامه مناهج وبرامج دول متقدمة، بحجم السويد وفنلندا والنرويج واليابان وألمانيا وغيرها؛

ولا يمكن في نهاية المقال، إلا أن نحذر من أية محاولات أو خرجات من هنا وهناك، تروم الالتفاف حول مطالب الشغيلة التعليمية، أو الترويج لحلول “ترقيعية” بئيسة لمعالجة الأزمة، وأي مسعى أو توجه من هذا القبيل، لن يكون إلا لعبا بالنار، وتبخيسا للعملية التعليمية التعلمية و”تسليعا” لها، وقبل هذا وذاك، مغامرة بالأمن والاستقرار، في سياق داخلي وخارجي، يقتضي تعبئة الجبهة الداخلية والجنوح نحو الوحدة الوطنية والتشبث بثوابت الأمـة. مع ضرورة التأكيد، أن التعليم هو القضية الوطنية الثانية، بعد قضية الوحدة الترابية للمملكة، والذي ظل حاضرافي صلب اهتمامات وتوجهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس، منذ جلوسه على عرش أسلافه المنعمين، لما له من أدوار محورية، في بناء الإنسان وصون اللحمة الوطنية، وكسب الرهانات التنموية ورفع مختلف التحديات الاقتصادية و الأمنية والاستراتيجية؛

وعليه، فأي تبخيس للمهنة، أو تقليل من شأن نساء ورجال التعليم، لن يكون إلا عرقلة، للمسيرة التنموية التي يقودها عاهل البلاد، وإساءة لوطن لن يسمو ولن يرتقي، إلا بتعليم ناجع وفعال وعادل ومنصف، تحظى فيه الشغيلة التعليمية، بما يليق بها، من احترام وتقدير وتحفيز واعتبار، وإذا كان من أمل أو رجاء، فنأمل ونرجو أن تفك خيوط الأزمة القائمة عاجلا وليس آجلا، إنقاذا للعام الدراسي الذي بات على كف عفريت، واعتبارا لنساء ورجال، لن يستقيم عود الإصلاح، إلا بهم، ولن تتحقق نهضة تربوية وتنموية، إلا في حضرتهم، عسى أن تتعقل الحكومة، وتدرك أن الأزمة التعليمية المستشرية بالقطاع منذ أسابيع، لم تعد أزمة “معلم” يناضل من أجل الكرامة، بل باتت أزمة مجتمع وقضية رأي عام وطني، في سياق اجتماعي ساخن، وأزمة وطن، يدفعه خطاب العناد والتحكم والاستقواء وكسر العظام، نحو المجهول، وأزمة مدرسة عمومية لم يعد بيتها يسـر الممارسين والزائرين والعابرين…وفي المجمل، فماهو باد للعيان، أن طنجرة الضغط وصلت درجة الغليان، في وقت يكتفي فيه، صانعو القرار السياسي والتربوي، بالفرجة والترقب …

الاخبار العاجلة