أساتذة المغرب ومعركة الكرامة

24 أكتوبر 2023آخر تحديث : الثلاثاء 24 أكتوبر 2023 - 6:22 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
أساتذة المغرب ومعركة الكرامة

بقلم: عزيز لعويسي

في ظل ما تعيشه المنظومة التعليمية من احتقان غير مسبوق، على خلفية إصدار مرسوم النظام الأساسي الجديد لموظفي التربية الوطنية، نقف عند مفترق الطرق، متسائلين عن الأسباب الحقيقية التي لازالت تقف حتى اليوم، سدا منيعا أمام، استقرار المدرسة الوطنية العمومية ونهوضها وارتقائها وبهائها، على الرغم، مما تم تنزيله طيلة العقود الأخيرة، من مشاريع ومخططات ورؤى إصلاحية، كلفت مبالغ مالية ضخمة، دون أن تنجح في نقل المنظومة التعليمية، إلى ما نتطلع إليه جميعا، من تقدم وازدهار وإشعاع، يضع الأمة على سكة الإصلاح التنموي الشامل؛

جربنا الميثاق الوطني للتربية والتكوين، واختبرنا المخطط الاستعجالي، وأبدعنا في إخراج رؤية استراتيجية للإصلاح وما ارتبط بها من تدابير ذات أولوية، واستعجلنا إصدار القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وأسرعنا في تنفيذ ما يرتبط به من مشاريع، بل وبادرنا إلى رسم ملامح خارطة طريق جديدة تغطي الفترة الممتدة من 2022 إلى 2026، ولم نتردد في بلورة مشروع مدرسة جديدة وصفت بالرائدة، وفي استعجال تنزيل مقتضيات نظام أساسي جديد، أملا في إعادة الاعتبار للشغيلة التعليمية، وتمكينها من شروط التحفيز اللازمة، لتكـون، القناة الذي لا محيد عنها، لأجرأة وتنزيل مختلف أوراش الإصلاح، أو ما يتم تسويقه من إصلاح، والنتيجة المخيبة للآمال، فشلا ذريــعا، نقرأ تفاصيله وعناوينه، في جمرة الاحتقان التي أشعلها هذا النظام الجديد في الساحة التعليمية، بعدما عاكست كرته، مرمى التحفيز والعدالة والكرامة والإنصاف؛

الوزير الوصي على القطاع، السيد شكيب بنموسى، ظهر قبل أيام، في عدد خاص من “ضيف خاص” على القناة الثانية، من أجل التعريف بمضامين هذا النظام الأساسي، وتعداد مكاسبه ومحاسنه، في محاولة منه إطفاء جمرة الغضب المستشري في أوساط الشغيلة التعليمية، وفي معرض أجوبته، أشار إلى أنه وبعد تحمل مسؤولية تدبير قطاع التربية الوطنية، قيل له أن هناك ملفا ثقيلا، إذا تم حله، تم حل مشاكل التعليم، ويقصد هنا، ملف الأساتذة أطر الأكاديميات، وبعد لقائه بالنقابات التعليمية، أخبر من قبلها، أن هناك ملفا وحيدا، يرتبط بكيفية خلق الدرجة الممتازة، وهذا التضارب في الرؤى والمواقف، يفسر بشكل أو بآخر حالة الرفض غير المسبوقة التي واجهت وتواجه النظام الجديد لأنه بكل بساطة “من الخيمة خرج مايل”، ليس فقط، بسبب غياب إرادة الإصلاح من جانب الوزارة ومن ورائها الحكومة الاجتماعية، بل أيضا، بسبب نقابات، أساءت التدبير والتقدير، ولابد لها أن تتحمل مسؤوليتها كاملة، فيما جنته الشغيلة التعليمية من خيبات وتراجعات؛
الإصلاح الحقيقي للتعليم، كان يفترض أن ينطلق أولا من فتح أرشيفات مختلف المشاريع والمخططات الإصلاحية السابقة، التي استنزفت مبالغ مالية ضخمة من ميزانية الدولة، ولم تنتج إلا منظومة تعليمية متواضعة، أنهكها “التجريب” و”الترميم” و”مساحيق التجميل”، وشغيلة تعليمية باتت أسيرة احتقان طال أمده، ونخص بالذكر التجارب المرتبطة بالميثاق الوطني للتربية والتكوين والمخطط الاستعجالي، وما تلى ذلك من محاولات ترقيعية، حولت المدرسة العمومية إلى ما يشبه “مختبر التجارب”، ومراجعة هذه الأرشيفات، ليس فقط، من باب ربط المسؤولية بالمحاسبة، بل أيضا من زاوية استثمار التراكم، عبر وضع الممارسات الإصلاحية السابقة، تحت مجهر “التشخيص” و”التدقيق” و”التقييم”، ومعها الأرشيفات المحفوظة لدى النقابات التعليمية العاكسة للفعل النضالي التعليمي، ما يساعد على فهم دقيق للمسألة التعليمية، ويساعد على إرساء إصلاح حقيقي واقعي ومتبصر، يقطع مع كافة أسباب ومسببات الاحتقان المستشري في أوساط الشغيلة التعليمية، والذي لازال، يقف سدا منيعا أمام الإصلاح، دون إغفال أن الإصلاح لايمكن البتة بناؤه، بسواعد أنتجت الفشل وصنعت الإخفاق، في زمن لم يكن فيه للمسؤولية معنى، ولا للمحاسبة جدوى؛

وإذا ما قمنا بطي أرشيفات السنوات العجاف، فالحقيقة الأولى البادية للعيان، أن المدرسة العمومية، تعيش على وقع الاحتقان منذ الكشف عن هوية المرسوم المؤطر للنظام الأساسي الجديد، وسيدخل هذا الاحتقان، مستويات مقلقة من التصعيد، بعد الإعلان عن برنامج نضالي يمتد لأسبوعين، تتباين محطاته بين الوقفات اليومية والإضرابات والاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية، وفي قفص الاتهام، نظام أساسي، دخل تاريخ التشريع من بابه الواسع، بعدما بات أول نظام أساسي، يحرك زوبعة غير مسبوقة من الرفض والاحتجاج، حتى قبل صدور المرسوم المؤطر له، أما الحقيقة الثانية، التي لايمكن البتة تغييبها أو تجاهل تأثيرها، فترتبط ارتباطا وثيقا، بالتداعيات المتعددة المستويات لهذا الاحتقان الآخذ في التمدد والانتشار، سواء تعلق الأمر بالتداعيات ذات الصلة بالنظام العام، بعدما باتت قوات إنفاذ القانون تقف وجها لوجه أمام المحتجين، وما قد يرافق ذلك، من إشكاليات قانونية وحقوقية نحن في غنى عنها، في ظل غياب إرادة تذويب جليد الخلاف من جانب صانعي القرار السياسي والتربوي، ومن مساس ناعم بالأمن والاستقرار كرأسمال لامادي، لا تستقيم تنمية ولا إصلاح ولا استثمار إلا به، ومن تكريس بالإحساس بانعدام الأمن وفقدان الثقة في المؤسسات في أوساط المواطنين، خاصة في لحظات المسيرات والاعتصامات، وما يرافقها من كر وفر وربما من تجاوزات، بين عناصر الأمن والمحتجين،

فضلا عن الآثار المقلقة لهذا السياق النضالي، على الرهانات والتحديات المطروحة أمام الدولة، سواء تعلق الأمر بإعادة إعمار ضحايا الزلزال، الذين يرتقب أن يعيشوا ساعات في الجحيم، مع قدوم موسم الشتاء، أو باشتداد حمى الأسعار وارتفاع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وتنزيل ورش الحماية الاجتماعية والاستراتيجية الجديدة للسكن المدعم، أو بالاستحقاقات المرتبطة بتنظيم كاس إفريقيا للأمم، وكاس العالم نسخة 2030، وما يفرضه ذلك، من أوراش تنموية مفتوحة تحتاج بيئات آمنة ومستقرة، تطال البنيات الرياضية والطرقية والسككية والفندقية والمطارات والموانئ وغيرها، أو بالتحديات ذات الصلة بقضية الوحدة الترابية للمملكة، التي تقتضي أكثر من أي وقت مضى، تحصين الجبهة الداخلية، واليقظة والاحتراز من دسائس ومؤامرات أعداء وخصوم الوطن، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، مطبوع بالقلق والتوتر، استحضارا للحرب الروسية الأوكرانية، والظروف الحرجة التي تمر منها القضية الفلسطينية، وما حملته وتحمله، من انعكاسات على الوجدان الشعبي، دون إغفال التداعيات المباشرة على المدرسة العمومية وعلى صورتها المجتمعية، ومستقبل الموسم الدراسي في ظل اتساع دائرة الوقفات والإضرابات، وبين هذا وذاك على متعلمات ومتعلمين، لم يتخلصوا بعد من آثار جائحة كورنا “.. ما قدهوم فيل.. زادوهم فيلة”؛

ونحن نستعرض هذه التداعيات والآثار على سبيل المثال لا الحصر، غير مقبول إطلاقا، أن يلعب الجميع دور الكومبارس، أمام جمرة نضالية تعليمية آخذة في التوهج والانتشار، وغير مقبول بشكل خاص، أن تكتفي الجهات التي بأيديها تقديم الحل أو الحلول الممكنة، بالصمت والترقب. ونرى أن اللحظة، لابد أن تكون فوق الإدانة والتنديد والعتاب، لأن مصلحة الوطن فوق الجميع، ومصلحة الوطن والمواطنين، تقتضي النظر إلى نساء ورجال التعليم بمنظور الكرامة والاحترام والتقدير والاعتبار، ومنحهم على الأقل، ما يمنح لمهن وقطاعات أخرى من وسائل تحفيزية، سواء تعلق الأمر بالأجر أو بالتعويضات الأساسية والتكميلية، ومن باب التوضيح، يكفي مقارنة أجر المدرسين، مع الأجر الذي يتلقاه موظفو عدد من القطاعات، من قبيل العدل والشرطة وتفتيش الشغل والمالية والتحفيظ العقاري والتعليم العالي والطب والتمريض…، ليتبين أن مهنة التدريس، تحولت اليوم، إلى مهنة “بئيسة” فاقدة لأدنى شروط الجذب والتحفيز، وحتى النظام الجديد، الذي كان يعول عليه لإحداث التغيير المنشود، أتى مكرسا لمهنة تعليمية تفترش البؤس وتلتحف الرتابة والتواضع، بعدما أقفل بوابة الرفع من الأجور وأقفل نافذة التعويضات، واكتفى بدون حرج أو حياء، بإثقال كاهل المدرسين، بمهام ومسؤوليات جديدة، وتطويقهم بحزمة من العقوبات التأديبية، التي لاتكرس إلا المزيد من “الحكرة” وأخواتها، ولا تقوي إلا الإحساس بالظلم والغبن واليأس وانسداد الأفق؛

وحتى لانبخس الناس أشياءها، فالنظام الجديد أتى ببعض المكاسب غير المسبوقة، لكن على مستوى الاتجاه العام، كان نظاما تراجعيا خاصة بالنسبة لأطر التدريس، ومنهم أساتذة الثانوي التأهيلي الذين باتوا يتصدرون قائمة ضحايا مرسوم الجدل، بعدما جنوا صفر مكاسب وصفر تعويضات، وهذا المرسوم لايثير البتة، أي إشكال تشريعي، فالحكومة التي وضعته واستعجلت المصادقة عليه ونشره بالجريدة الرسمية، قادرة على إعادة وضعه على طاولة الحوار والتفاوض مع الفرقاء الاجتماعيين، من باب التعديل والتصويب والتجويد، مع دعمه ومؤازرته بمراسيم أو قرارات أخرى، فيما يتعلق بالتعويض عن بعض المهام والأعباء كالحراسة والتصحيح والمواكبة وغيرها، من منطلق أن القاعدة القانونية لاقيمة لها، ما لم تكن منسجمة ومتناغمة مع السياق الذي أنتجها، وتدابير من هذا القبيل، لا تحتاج إلا إلى الإرادة والشجاعة السياسية، في معركة نضالية، من اللازم تجريدها من أية ممارسات غير مسؤولة وغير متبصرة جانحة نحو “لي الذراع” و”الاستقواء” و”التحكم” و”فرض الأمر الواقع” و”الضغط والابتزاز”؛

إجماع أطر التدريس كافة، على رفض مرسوم الجدل، معناه أنه لم يكن لا “عادلا” ولا “محفزا” ولا “منصفا” ولا حتى “موحدا”، مهما حاولت الجهات الرسمية تلميع صورته أو إبراز مفاتنه، وإجماعهم على الوحدة النضالية غير المسبوقة، معناه أن هذا النظام فشل في إعادة الاعتبار إلى مهنة، لم يعد بيتها يسر الناظرين ولا الزائرين ولا العابرين، وفي هذا الإطار، لا نلتمس من الوزارة الوصية على القطاع، ومن خلالها الحكومة، التقاط الإشارات، بل والتحرك الاستعجالي، لإيجاد الحلول القانونية الممكنة والتدابير اللازمة، التي من شأنها الإسهام في إعادة بناء مقتضيات نظام أساسي، تحضر فيه معاني التحفيز والعدالة والإنصاف، وإرادة النهوض بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية والنفسية لأسرة التعليم، بعيدا عن خطاب الوعد والوعيد، ولم يعد ممكنا أن تتعامل الحكومة أو الحكومات مع قطاعات ومهن بمقياس السخاوة والاعتبار على مستوى الأجور والتعويضات، ولما يتعلق الأمر بالتعليم، يتم إشهار سيف “والو..والو والو”، فمن العيب أن تكون أجرة مدرس في الدرجة2/السلم10 حديث التخرج، أقل من “5000 ” درهما، مقارنة مع عدة مهن ووظائف، في وقت تعهد فيه حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه عزيز أخنوش في برنامجه الانتخابي، بالرفع من أجور نساء ورجال التعليم، وهو الالتزام الذي تم الانقلاب عليه بمجرد ما وصل الحزب إلى قيادة الحكومة، وفي هذا الصدد، وحتى لا نكون قاسيين على شكيب بنموسى، فالكرة لابد أن ترمى في مرمى الحكومة برمتها، التي لابد أن تتحمل مسؤوليتها كاملة، في قضية تكتسي أهمية بالغة بعد قضية الوحدة الترابية للمملكة، وتحظى بعناية خاصة من قبل جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، باعتبارها طريقا لامحيد عنه، لكسب رهانات ما يتطلع إليه جلالته، مـن تنمية وبناء وبهاء وإشعاع، ومن إرساء للقيم الوطنية والدينية، على أمل أن تحضر الحكمة والشجاعة السياسية من جانب الحكومة “الاجتماعية”، لتمكين أطر التدريس، مما يبحثون عنه، من كرامة وتحفيز واحترام وتقدير واعتبار، عبر نظام أساسي “موحد” و”منصف” و”عادل” و”محفز”، يقطع مع لغة الربح والخسارة وهواجس التوازنات والحسابات المالية الضيقة …

الاخبار العاجلة