الأفران البلدية، خبز الدار وخبز السوق – ج2

12 أكتوبر 2021آخر تحديث : الثلاثاء 12 أكتوبر 2021 - 10:25 صباحًا
admintest
سلايدرمجتمع
الأفران البلدية، خبز الدار وخبز السوق – ج2

علي هرماس

قبل بسط الموضوع، نرى ضرورة تصحيح وضبط المفهوم الادراكي concept cognitive وارتباطه بالدلالة المعنوية connotation signifiante بعدما سرى خطأ إسقاط مفهوم المعنى المتحرك/فرّان ويقصد به المبنى الثابت/فُرن، للتمييز بين المصطلحين، فُرن جمع َأفران هو موقد النار ومكان الحرارة لطهي الخبز، فرن الحطب وفرن الغاز وفرن الكهرباء، أما الفرّان هو الخباز الحرفي صانع الخبز، ليس بالضرورة أن يكون رجلا والفرن مستقلا، فأرشيف تاريخ تارودانت وثق لنا بالصور بعض المشاهد لنسوة المدينة وهن يساهمن وإن بشكل محدود جدا في تجارة خبز السوق، خبز بنكهة مداق، وبصمة يد، وابداع فن جمع خصائص الصفة ومميزات الشكل لخبز الدار وخبز السوق على السواء.
1 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
4 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
تاريخيا تتشكل تارودانت من أربع “رْبوعا”/مشيخات وهي رْبعْ أسراك وربع الزاوية وربع جامع الكبير وربع مجمع الأحباب بالإضافة الى حومة القصبة، قبل 1970 كان على الأقل بكل رْبع/حومة ما لا يقل عن ثلاثة أفران بلدية يؤمنون خدمة إنضاج خبز الدار الذي يفد عليهم من البيوت القريبة في وصلات خشبية مستطيلة أو صحن معدن مستدير بطلائه الأبيض، والذي يكون قد استخدم قبلُ في تحضير عجين خبز الدار، للأسف الشديد هذه العينات التاريخية من الأفران البلدية اندثرت بفعل الزمن وطبيعة بناءها الهش، لم يبقى منها سوى أربع أو خمس وحدات تنوح العين لحالها وتئن الأذن لسمع مآلها بعدما كان مجموعها يقارب العشرين فُرنا بحاضرة تارودانت وهي كالتالي:

1-فرن درب العفو لصاحبه أبا حجوب الكجبوط قرب المسجد 2- فرن أبا حسن حجمي 3- فرن مولاي حفيظ رودان كلاهما بدرب الزمالة 4- فرن بيزكمة بدرب الشريف من جهة أقنيس هدم وحل مكانه ثلاثة منازل 5- فرن برج اومنصور لصاحبه الحاج العربي أمنتاك خلفه في الحرفة ابنه البكر 6- فرن درب كسيمة لصاحبه داعبد الله وشقيقه أبا عمر صفارت 7- فرن بابا علي بالحدادة خلفه في الحرفة ابنه البكر 8- فرن بيزكمة بسيدي وسيدي جوار الزاوية التجانية، بمدخل السوق الكبير – سماط البلايغية، ملكية الأحباس يرجع تاريخ بناءه الى منتصف القرن العاشر الهجري 950هـ ورد ذكره في الحوالة الحبسية على سبيل التحديد المكاني 9- فرن سمسار بمدخل السوق الكبير- سماط الخضارين هدم وحل مكانه رواق التحف المسمى بازار ليشير 10- فرن سي مميد معتصم بمدخل السوق الكبير- سماط الحلايسية، قديم جدا هو الآخر ملكية الأحباس 11- فرن بيزكمة الثاني بحومة سيدي حسين جوار مرقد الأبد لسيدي عباس التلمساني بعد هدمه تحول الفرن الى حومة بنيارة خلفه في الحرفة ابنه البكر 12- فرن ديويد شقيق البراح بمدخل درب أقا قبالة طريق موسى اوهو 13- فرن أبا عياد فرماش بعمق حي درب أقا أخذ الحرفة عن الدويد 14- فرن أبا عمر أبو الوفا الوحيد باولاد بنونة ملاصق لساقية تافلاكت وصهريج القناة تحت أرضي، قبل تغير المجال الطبيعي بالمشهد العمراني الحالي، قبلة حتى باب الخميس وغربا وشمالا حتى السور وجنوبا حتى درب الشريف كان يحيط به جنانات بأسماء عائلية رودانية لا غير ، ما جعله يكتفي بطهي خبز الدار لعدد محدود هم الأسر القاطنة قرب باب أولاد بنونة فقط 15 – فرن القصبة مالكه الباشا محمد التيوتي قريبا من دار العشور، الأكبر مساحة ضمن مجموع الأفران البلدية بتارودانت، ما سمح بتأمين خدمة طهي خبز الدار لمجموع قاطني حومة القصبة، فيما العائلات الميسورة فضلوا بناء فرنهم الخاص بفناء البيوت الفسيحة 16- فرن الرحى الأول بالرحبة قبالة الزاوية الجيلالية مالكه بيزكمة 17- فرن الهر الثاني بالرحبة ملاصق بباب المسجد 18- فرن لحسن همو/وهبي 19- فرن بيتش/نجاح كلاهما قرب أسراك.
2 1 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
تعداد يروم التحقيق وليس الضبط والتدقيق، بما أن جل المساعدين بمجرد تشبعهم بقواعد الحرفة في الأفران البلدية الأصلية وخبروا تجارة السوق، استقلوا إما من تلقاء أنفسهم أو بدافع من مُعلميهم، وساهموا مطلع السبعينات في شبكة الأفران البلدية بعمارة عصرية تماشيا مع التوسع العمراني والتطور الاجتماعي الذي عرفته تارودانت المدينة بداية 1970، جلهم اقتحم غمار اعداد وبيع خبز السوق بالأساس، في احترام تام للعادات المألوفة والأعراف الموصوفة في الحرفة، والتي تحتم ارتباط فرن معين بمتاجر محددة داخل الحومة لا يتعداها لغيرها، يزودها يوميا بقدر معلوم من خبز السوق في أوقات متفق عليها، هكذا يتم التحكم في طلب التزود من الفرن وضبط المعروض للبيع بمتاجر السوق تفاديا لضياع “نعمة الله”؛ للأسف هذا الوعي المجتمعي طواه الزمن برحيل أصحابه، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا القناعة واتبعوا لهث ربح الخبزة دون اعتبار تكلفة الإنتاج والتسويق، والنتيجة عشرات الوحدات من خبز السوق يسترجعها الفرّان من المتاجر يابسة يوميا، ويخزّنها في ظروف سيئة لعدة أسابيع تُعرضها للتعفن المتقدم، ومع ذلك يبيعها بالأطنان لوسطاء إعادة تدويرها في بعض الصناعة الغذائية الحلوانية.
5 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
1970 مع ظهور بعض ملامح التجديد العمراني المهيكل بتارودانت، من تجلياته العصرية احداث أول تجزئة سكنية بالمدينة بحي أكافي، شراكة ثلاثية بين أزكري صاحب الأرض/جنان وأوبو محماد/سنجير مقاول البناء ومهندس مساح فرنسي يتنقل من أكادير ، بموازاة التجزئة شيد الشريكان الفرن البلدي الثاني في تارودانت بهندسة مدنية عصرية، أشرف على تصميمه الهيكلي المهندس الفرنسي شخصيا، نذكر تعدد مرافقه الداخلية بداية بالحمام به مغسل اليدين، وزاوية أشغال التحضير بعجانة الكهربائية سعة قنطار من الدقيق، وزاوية التخزين، وفناء الاستقبال، وبيت النار للطهي بباب يدوي مدرع خلفه أرضية آجور الصلصال عوض آجور الفخار الذي يتآكل بفعل النار واحتكاك الطراح الخشبي، فيما موقد النار معزول أسفل مكان الطهي …
6 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
مجموع الأفران البلدية بالحاضرة الرودانية رغم تشابه شكلها المعماري وتوحيد مرافقها وطبيعة خدمتها الاجتماعية، نجد استثناء خدماتي يهم وحدتين : فرن حومة الملاح خاص بالطائفة الاثنية اليهودية الرودانية، الأول رئيسي ملاصق لملجأ أيتام يهود تارودانت مقر جمعية قدماء المحاربين حاليا، الثاني بعده باتجاه باب أحفير في عمق حارة الملاح الدرب الأول يمينا، طاقته الخدماتية محدودة، لكنه يشهد ضغطا كبيرا ليلة السبت لإعداد خبز الرقاق وباقي المناسبات الدينية العبرانية، للتذكير كان بتارودانت 958 يهودي روداني 1960؛ الاستثناء الثاني فرن ببراح البقر مجمع الأحباب خاص بجالية المعمرين المقيمين بتارودانت أغلبهم فرنسيون مالكه إيطالي الأصل روداني الاستقرار اسمه فرانسوا سالفادور .
7 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
Salvador François أول من شيد بتارودانت فرن عصري بحومة مفرق الأحباب، ما يجعلنا ندرجه ضمن قائمة الأفران التاريخية بتارودانت، مع تنحيته من دائرة تصنيف الأصالة البلدية التي تعود لمنتصف القرن العاشر الهجري بالمدينة، موثقة عدليا مسجلة حبسيا؛ السبب الثاني الذي يفرض هذا الترتيب الشكلي تخصصه في اعداد وتسويق خبز يراعي دوق جالية المعمرين الفرنسيين المقيمين بتارودانت وثقافة مائدة الغداء الأجنبية بصفة عامة ، فرن متخصص في إعداد الخبز الطويل الكبير والصغير et petit pain Grand pain بدل خبز القرص المعتاد في ثقافة المائدة الرودانية.

الخبز الكبير المعروف مجازا في مجموع التراب الوطني ب”الكومير”، مفهوم إدراكي شعبي لدلالة معنوية من زمن الحماية الفرنسية La queue au mur، يفيد انتظام المحتاجين الفقراء والمساكين الجياع بباب الفرن في طابور بالمآت لتسلم الخبز زمن مسغبات الجوع، آخر مشهد ضخم سجلته الذاكرة الرودانية سنة 1942 ، لما قرر الروداني الميسور مولاي بوبكر من حومة باب ترغونت شد الرحال الى بيت الله الحرام، فتعذر عليه السفر بسبب جائحة وباء التيفوس، حينها ندر مبلغ الحج كاملا صدقة في سبيل الله ، واتفق مع الدويد صاحب فرن درب أقا ومساعده أبا عياد لتوزيع600 خبزة يوميا على فقراء ومساكين تارودانت، فكان صف الجياع يمتد من باب الفرن بمدخل موسى وهمو الى مدخل درب الحشيش مرورا بأسراك…

بقي عامة الناس غرباء المدينة بالخصوص محافظين على نظام الاصطفاف الى الحائط La queue au mur بباب الأفران البلدية المتخصصة في تحضير وبيع خبز السوق، حتى غدا المشهد عرفا مترسخا في الذاكرة، استمر العمل به بباب فرن أبا عمر صفارت بمدخل درب كسيمة من جهة أسراك، ساحة موقف العمال المياومين المداومين والموسميين الجبليين فترة جني غلة الزيتون، حيث يبدأ الصف من باب الفرن بدرب كسيمة ويستمر جنب حائط الزاوية البنونية/نخلة أسراك، ويمتد حتى باب الزاوية الحمدوشية مكان النافورة حاليا، قبل هدم الزاويتين ودار الدباغة خلفهما سنة 1969؛ توثيقا للذاكرة التاريخية الرودانية، نسجل كون المرحوم أبا عمر صفارت صاحب فرن درب كسيمة هو أول من أبدع خبز المحراش بتارودانت، فن حرفة ودكاء تجارة استقطب به نصف النازحون طالبوا المعاش بموقف اسراك، فيما النصف الآخر/المتأخر يتوزع على بقية الأفران البلدية القريبة، فرن الرحبة وفرن الخضارة وفرن درب الحشيش وفرن درب اقا وفرن بيتش قريبا من حمام التونسي، جميعها متخصصة أساسا في إعداد وبيع خبز السوق بحكم موقعها بمحيط أسراك.
8 - جريدة سوس 24 الإلكترونية
قبل 200سنة، جل أصحاب الأفران البلدية المتخصصة في بيع خبز السوق بالإضافة الى عامة الرودانيين، كانوا يكتالون أصواع الحبوب من رحبة الزرع التي تقع بين سماط الخرازين شرقا والعطارين غربا، الرحبة فناء متوسط المساحة وثقه مالكه سنة 1214هـ/1800م حبسا شرعيا و”سوقا لجماعة المسلمين يبيعون فيه الزرع والخضر ولا يحسد فيه أحد أحدا” كما جاء في عقد التحبيس، فيما القلة يتوصلون بتموين الزرع مباشرة، لتبدأ أولى مهام مساعد الخباز بالأفران البلدية، حمل اصواع الزرع شعيرا أو قمحا من الفرن، ونقلها بالجرابيات فوق ظهر الدواب الى المطحنات المائية، أربعة منها داخل المدينة بكل من باب الخميس وتفلاكت وببويزمارن واولاد بنونة فوق الساقية. وخمسة خارج السور؛ بعد ثلاثة ايام على الأقل يرجعها الى الفرن لنخل الدقيق وترتيب الأكياس جانبا في ذات مكان العجن والاختمار والطهي، عدا الحطب الذي يطرح في الطريق عند المدخل نظرا لضيق المكان بالأفران البلدية، جل العود يحتطب من غابة السدر ببور أهل تارودانت/لاسطاح وبورة جرف الواد/المطار، يتكلف باحتطابه بسطاء الحال كل ما يملكون دابة عجفاء بجرابيات بالية فيها فأس حافية.

كل زمن وتارودانت بألف خير – يتبع

الاخبار العاجلة