الهاربون

2 مايو 2022آخر تحديث : الإثنين 2 مايو 2022 - 5:05 مساءً
admintest
كتاب وآراء
الهاربون

بقلم : عزيز لعويسي

في اللحظة التي كانت فيها شرائح واسعة من الجمهور الافتراضي منشغلة بقصف “شيخة المكتوب” بدون كلل أو ملل، وفي سياق ما تعرفه المدرسة العمومية من تدابير إصلاحية تنزيلا لما بشر به القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي، وفي ظل ما يعتري الشغيلة التعليمية من مشاهد الاحتجاج والاحتقان واليأس والإحباط وانسداد الأفق، تناقلت العديد من وسائل الإعلام خبر فرار ستة تلاميذ رياضيين من ضمنهم فتاة بسلوفاكيا، عقب مشاركتهم في بطولة خاصة بالعدو الريفي المدرسي بعدما كان من المرتقب أن يعودوا إلى أرض الوطن بمعية زملائهم الذين شاركوهم مضمار التباري.

ودون فتح أية جبهة نقدية جدلية بخصوص هذا الحادث الذي مر مرور الكرام، دون أن يحظى بما يلزم من نقاش وجدل وتحليل ومتابعة، على غرار ما وقع في مسلسل “المكتوب” وقبله مسلسل “فتح الأندلس”، ليس أمامنا من حل أو بديل، سوى الاستنجاد بسلطة القلم، لنتساءل عبرها من الذي جعل تلاميذ قاصرين يتركون مقاعد الدراسة ويجازفون بالمستقبل الدراسي والجامعي وبالأحلام المشروعة، ويلوذون بالفرار بسلوفاكيا عقب مشاركتهم في منافسة للعدو الريفي المدرسي؟ ما هو الظرف أو الظروف التي فرضت على تلاميذ في مقتبل العمر، اقتناص فرصة المشاركة في تظاهرة رياضية مدرسية خارج أرض الوطن، ليقدموا على فعل الفرار؟ ما المعيق أو المعيقات الذاتية والموضوعية التي تقوي الإحساس الفردي والجماعي بالهروب خارج الوطن في أوساط الناشئة من الأطفال والمراهقين والشباب؟

في هذا الإطار، ليس بالضرورة أن نستنجد بعلماء النفس والسوسيولوجيا، أو بالمتخصصين في مجال الجغرافيا في شقها المتعلق بقضايا الهجرة والاندماج واللجوء، من أجل النبش في تضاريس هذا الهروب أو “الفرار” بلغة “الجندية”، ولن نحدو حدو من اكتفى بالتعبير عن مشاعر الأسف حيال ما حدث في سلوفاكيا، أو من وصف “الفرار التلاميذي” بالأمر “المخطط له”، أو من قلل من شأن الواقعة واعتبرها حالة معزولة، أو حتى من حمل أسر الهاربين مسؤولية الهروب، فالواقعة في شموليتها ما هي مرآة إلا عاكسة لواقع مجتمعي يكرس أسباب النفور ويقوي الإحساس باليـأس وفقدان الثقة والإحباط وانسداد الأفق، ولبيئة مدرسية تحضر فيها مشاهد الرتابة والتواضع والبؤس، تكاد تغيب عنها شمس التحفيز والأمل والتفتح والإبداع والحياة.

وإذا ما تركنا التناقضات المجتمعية جانبا التي ترخي بكل ثقلها وتأثيراتها على المجتمع المدرسي، فالمدرسة العمومية باتت فاقدة لكل شروط الجذب والتأثير، في ظل بنيات استقبال رتيبة تتقاسم مشاهد التواضع إذا لم نقل البؤس، ومحدودية الأجهزة والوسائل الديدكتيكية التي من شأنها تجويد العمليات التعليمية التعلمية وتأمين مرور سلس نحو “الرقمنة”، وجائحة الاكتظاظ التي يصعب معها الحديث عن عمليات تعليمية تعلمية ناجعة، وشيوع ثقافة الاحتجاج والاحتقان في أوساط الشغيلة التعليمية بكل ما لذلك من تأثيرات مباشرة على إيقاعات الزمن المدرسي وعلى الحق في التعلم وتكافؤ الفرص، وتمدد مساحة الهدر المدرسي والجامعي، في غياب الحل أو الحلول الممكنة من جانب صناع القرار التعليمي والتربوي، وتواضع الحياة المدرسية وعقم المناهج و”شيخوخة” البرامج …

وهذا الواقع التربوي “المأسوف عليه”، أنتج وينتج سلوكات لامدنية في أوساط التلاميذ تتقاسم جميعها عناوين العبث والتهور وانعدام المسؤولية وغياب الالتزام وتدني مستويات الانضباط والمواظبة، فضلا عن تراجع أدوار المدرسة العمومية التي لم تعد قادرة على منح الأمل وتقوية الإحساس بإمكانية الارتقاء الاجتماعي، في ظل البون الشاسع الذي بات يفصل هذه المدرسة عن محيطها الاقتصادي والاجتماعي، دون إغفال المنظومة المجتمعية القائمة، التي باتت تشكل قـوة دافعة نحو “الهروب” و”الفرار”، ويكفي الإشارة في هذا الصدد، إلى ما يتخلل المجتمع من مظاهر الفقر والبؤس الاجتماعي، وتفشي الأمية والبطالة وشيوع ثقافة التفاهة والعبث والتهور وانعدام المسؤولية والانحـراف والجريمة، وتمدد بؤر الفساد وتدني منسوب المواطنة والقيم والأخـلاق، واتساع دائرة الفوارق الاجتماعية والتباينات المجالية، وأزمة المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية…

وبدون لغة خشب أو اختفاء بين الكلمات والسطور، فما حدث من فرار، هو تصرف “متوقع” قياسا لواقع الحال المدرسي والمجتمعي، وهو يعد امتدادا لحالات فرار سابقة طالت عددا من الرياضيين استغلوا فرص مشاركاتهم إلى جانب المنتخبات الوطنية خارج أرض الوطن، ولاذوا بالفرار مفضلين ركوب المجازفة والمخاطرة، بحثا عن مسار رياضي وعن مشوار حياتي قد يوفر طريقا معبدة نحو مستقبل آمن ومطمئن، ولم تتوقف أحلام الهروب والفرار من الوطن نحو الشمال عند عتبة الرياضيين، بل هي أحلام تراود شرائح واسعة من الأطفال والمراهقين والشباب اليائسين، وفي هذا الإطار، يكفي استحضار ما شهدته مدينة سبتة المحتلة من تدفقات غير مسبوقة للمئات من الأطفال والمراهقين من مرشحي الهجرة السرية في عز الأزمة بين الرباط ومدريد، باحثين عن “بريق أمل” و”فرصة حياة” خارج حدود الوطن في ظل بيئة مجتمعية دافعة نحو الهروب والفرار، ويكفي استحضار ما تم تسجيله طيلة سنوات من فواجع مرتبطة بالهجرة غير المشروعة، راح ضحيتها العشرات من الأطفال والمراهقين والشباب الذين توقفت عقارب حياتهم في البحر، في رحلات حركتها الآمال والأحلام، قبل أن تنتهي على إيقاعات الموت والهلاك والمأساة، دون إغفال ما وقع قبل سنوات في طنجة لما تفجرت قضية “القارب الشبح” الذي حول سواحل عروس الشمال إلى مقصد للمئات من الحالمين بالهجرة نحو الشمال هروبا من أحضان الوطن.

وهذه المشاهد المقلقة شئنا أم أبينا، فهي تمس بصورة البلد وتخدش سمعة الدولة، وحتى لا نبخس الناس أشياءها أو نوصف بالعدميين، فلايمكن إلا الاعتراف بما تحقق خلال العقدين الأخيرين من دينامية إصلاحية ومن أوراش تنموية كبرى ومن إشعاع دبلوماسي متعدد الزوايا، قوى ويقوي الإحسـاس أن مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس، لكن في ذات لايمكن إلا إدانة ما يتخلل المجتمع من مظاهر الفقر والبؤس الاجتماعي والتباينات السوسيومجالية، ومن مشكلات حقيقية في قطاعات حيوية واستراتيجية من قبيل التعليم والصحة والشغل، ومن مشاهد العبث السياسي والمساس بالمال العام والإثراء غير المشروع والمحسوبية والزبونية والشطط واستغلال النفوذ، وتباطؤ عجلات الرقابة والمسؤولية والعقاب، فضلا عن تدني منسوب المواطنة وتفشي جائحة الأنانية والجشع والعبث وانعدام المسؤولية …

ومن باب المواطنة الحقة ومحبة هذا الوطن الذي يجمعنا بكل تناقضاتنا، وحرصا على صورة البلد وصونا لما تحقق من مكاسب تنموية ودبلوماسية وإشعاعية، لم يعد ممكنا الاستمرار في إنتاج بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وإعلامية، دافعة نحو الهروب والفرار من أحضان الوطن الأم، كما لم يعد ممكنا القبول بواقعة فرار تلاميذ صغار بمناسبة مشاركتهم في تظاهرة رياضية مدرسية خارج أرض الوطن، ولم يعد لائقا أن يرتفع منسوب الاحتجاج واليأس وانسداد الأفق، ويتقوى الإحساس بالظلم وانعدام الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية في أوساط شرائح واسعة من المواطنين، لذلك لا بديل في الأفق، سوى الإسهام في كسب رهانات مغرب التنمية والحق والقانون والمؤسسات والمساواة العدالة الاجتماعية، عبر التصدي للفاسدين وربط المسؤولية بالمحاسبة وتجريم الإثراء غير المشروع، وتعقب كل العابثين، الذين يعيقون عجلة التنمية والتقدم والرخاء والازهـار، ويعاكسون بعبثهم وانعدام مسؤوليتهم، مسيرة النماء والبناء والإشعاع التي يقودها الملك محمد السادس برصانة وتبصـر واقتدار.

في خاتمة المقال، وبما أن الأمر يتعلق بتلاميذ قاصرين تركوا الوطن والأسرة والمدرسة والتعلمات والمستقبل الدراسي والجامعي، وجنحوا نحو خيار “الفرار” بكل ما لذلك من تبعات وآثـار، وعلى الرغم من أننا ندرك أن هذا الفرار تتحكم فيه عدة شروط ذاتية وموضوعية أشرنا إلى بعضها سلفا، فالواقعة تسائل منظومة تربوية لم تعد قادرة على منح الأمل والتفاؤل والقيم والتحفيز والحياة، بناء على ما تتخبط فيه من مظاهر التواضع والاحتقان، وما تقدمه من عروض تربوية غارقة في “الكم” لاتقدم ولا تؤخـر، إلا الشحن والإرهاق، و”الحكومة الاجتماعية” عموما والوزارة الوصية على القطاع خصوصا، مدعوة إلى تأمل ما حدث بما يلزم من المسؤولية والتبصر والالتزام، ومدعوة ثانيا إلى تبني إصلاحات حقيقية بعيدا عن لغة الحسابات وبمعزل عن هواجس الربــح والخسارة، بتقديم حلول مبتكرة، قادرة على جعل المدرسة العمومية مدرسة مواطنة وأمل والتزام ومسؤولية وقيم وتحفيز وحياة، والاجتهاد في منح نساء ورجال التعليم نظاما أساسيا تتوفر فيه شروط الاحترام والكرامة والفخر والتحفيز والاعتزاز والإنصاف وتكافؤ الفرص، لأنهم أساس الإصـلاح وصمام أمانه، ومن يربط خيار “النهوض بالأوضاع المهنية والمادية والاجتماعية” للشغيلة التعليمية، بالتوازنات المالية أو بالحسابات السياسوية الضيقة أو بالربح والخسارة، نذكـره أن جمرة الاحتقان أخطر وضريبة الجهل والتسيب وانعدام المسؤولية أثقـل وأقسى.

الاخبار العاجلة