التنمية الشاملة لا تبنى على الاستثمار بل على التغيير في التنظيم الاجتماعي

9 ديسمبر 2022آخر تحديث : الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 5:24 مساءً
admintest
كتاب وآراء
التنمية الشاملة لا تبنى على الاستثمار بل على التغيير في التنظيم الاجتماعي

ذ: محمد بادرة

التنمية هي مطمح كل بلد لتجاوز امراض التخلف وتحرير الانسان والمجتمع من الجهل والفقر والمرض ولهذا اكتسبت ” التنمية ” دلالة الحل -السحري- لقضايا المجتمعات الانسانية ومشكلاتها وبخاصة عندما وضعت ادبيات التنمية ما يسمى بالبلدان “المتقدمة” مقابل البلدان “المتخلفة” او “النامية” واكدت ان الفرق بين المجموعتين هو نتاج التنمية في الاولى وقصورها في الثانية.
لإزالة اللبس عن هذا المفهوم المستورد من “ثقافة” الاخر وغوامض معانيه لابد من ضبطه عن طريق تحديد معايير قابلة للقياس وشاملة للجوانب المادية والمعنوية للإنسان في ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لتكون مرشدا لجهود التنمية اولا ووسيلة لقياس نتائجها ثانيا.
في تداولنا واستعمالنا للمفهوم لا تزال عندنا مساحة معنوية ومادية شاسعة كبرى مجهولة الحقائق والعوامل والظواهر بالنسبة لما تقوم عليه اي تنمية شاملة تؤهلنا لتحقيق مشروع حضارة مستقبلية، فاذا كان الاهتمام حتى اليوم من قبل الخبراء والمهندسين والمثقفين والسياسيين والتقنيين من اهل الاختصاص او حتى من محبي الاستكشاف والاستطلاع قد اقتصر على رصد التغيرات الاجتماعية والسياسية الطارئة الا ان العمق الاجتماعي والتاريخي لهذه التغيرات وما يكتنفها من ظروف معقدة متشابكة بقيت بعيدة عن دائرة الضوء مما جعل خططنا التنموية مجهضة وعاجزة على ازالة ركام الجهل والتخلف والفقر.
ان المفهوم الحقيقي للتنمية هي انها عملية شمولية لا تقتصر على النمو الاقتصادي ولا على زيادة اجمالي الناتج الوطني او زيادة دخول الافراد.. فكل هذا وغيره من صور النمو والتقدم الاقتصادي ما هو الا تغطية لخفايا الموضوع، فمثلا نرى البلدان النفطية التي بجوارنا ومحيطنا لها دخل فردي مرتفع وناتج قومي كبير وتتربع على “كرسي” الرفاهية حسب التصنيف المالي والمادي للنمو بين دول العالم، الا انها لا تزال بعيدة عن مواقع الانتاج والانتفاع به، وبعيدة عن المشاركة في صنع القرار السياسي والاجتماعي وتوجيه الحياة، وهنا تتلى خطا معادلة التنمية بالنمو الاقتصادي. ان التنمية هي (عملية اجتماعية واعية موجهة نحو ايجاد التحولات في البناء الاجتماعي والاقتصادي …تنمية موجهة نحو تغيير وتطوير البناء السياسي والاجتماعي) وليس صحيحا ان التنمية هي من صنع الخبراء والمهندسين والتقنيين وحدهم في مكاتب الدراسة، كما ليس صحيحا ان التنمية الاقتصادية بشقيها الصناعي والزراعي تؤلف الجانب المادي المجسد لفاعلية المجتمع دون ان تشمل البناء الاجتماعي بمؤسساته الثقافية والسياسية والاجتماعية…
ان النظر الى التنمية بانها مجرد توسع اقتصادي يتحقق عن طريق استثمار موارد مالية ضخمة هو خطا شاسع وقعت فيه بلداننا ومعظم بلدان العالم السائر في طريق النمو تحت تأثير التبعية الاقتصادية للغرب وعدم فهم ماهية الاقتصاد السياسي في المجتمع. فالتاريخ الاقتصادي الاوربي علمنا في الماضي خلال الثورة الصناعية ان التقدم البطيء في الانتاجية الفردية في المدن والقرى والمراكز الحضرية الصغيرة والمتوسطة وفي اوساط الحرفيين والمهنيين هو الذي كان الدعامة الكبرى للثورة الصناعية في اوربا وهذا التقدم لا يتطلب استثمارات ضخمة بل يتطلب تغييرات تدريجية في التنظيم المجتمعي. (د. جورج قرم)
ان الثروات المالية التي نمتلكها قد تخلق وهما بإمكانية شراء الحضارة بالمال واستيراد التكنولوجيا وزرعها في تربتنا دونما اي اهتمام بالإنسان ومجتمعه الذي سيستخدم هذه الآلات ويسخرها لتحقيق احلامه بالتقدم الحقيقي !!
ما جدوى تبذير الاموال الضخمة في مشاريع لا تصلح للمرحلة التي يمر بها المجتمع سواء كانت هذه الاموال مستعارة من الخارج او متأتية من بيع الثروة الوطنية الى الخارج !! ما جدوى بناء الابراج وناطحات السحاب اذا لم تكن صالحة لتغيير البنيات والعقليات !! وما جدوى منافسة الغرب في انشاء مشاريع سياحية وخدماتية عملاقة لا تغير شيئا من النظام والعمران الاجتماعي !! فما جدوى اذن من تبذير الاموال في اقامة مشاريع لا تغير الوضعيات والبنيات والعقليات سوى ان نكون ضمن المصنفين “الأوائل” عالميا في قائمة الرفاهية الشكلانية وكفى !!!
اننا ما زلنا في المرحلة التي يجب ان تنصب فيها كل الجهود على رفع الانتاجية الفردية خاصة في الاوساط التي بقيت على هامش التطور الاجتماعي والاقتصادي منذ دخولنا في قنوات التجارة العالمية الحديثة.
اننا في حاجة الى مشاريع صغيرة متوسطة متواضعة تقام وتستنبت في قرانا وحواضرنا وفي احزمة البؤس التي تسيج مدننا بشرط ان تراعي هذه المشاريع الحاجات الحقيقية للمعنيين، وبشرط ان يتمكن هؤلاء من تنفيذ مشاريعهم بارادتهم وديناميكيتهم حتى تأتي هذه المشاريع بالفائدة الحقيقية لهذه الفئات المسحوقة من المجتمع.
اننا لابد من الاعتراف بان واضعي خطط التنمية وصانعي القرار الاقتصادي والاجتماعي وعلى غرار صانعي القرار السياسي يضعون مشاريع لصالح الشعب التجريدي- المتخيل لا لصالح الشعب الحي- المتغير وجميع الاعمال التخطيطية تأتي في الحقيقة نتيجة النظرة الاغترابية تجاه المستوى الاقتصادي في البلدان المتطورة صناعيا وبذلك تأتي هذه المشاريع “التنموية” بنتائج عكسية اي بتعميق التبعية التكنولوجية والاقتصادية تجاه الغرب.
فالنظام الاقتصادي المعمول به في بلداننا هو نظام رأسمالية الدولة حيث القطاع العام اي البيروقراطية الادارية هي التي تتكفل بالتنمية نيابة عن الشعب ويصبح الشعب متكلا على الدولة اي على القطاع العام لتامين حاجاته الاساسية، ويصبح القطاع العام متكلا على الخبرات والتكنولوجيا والرساميل الاجنبية لتطوير امكاناته الاقتصادية، اما القطاع الخاص فانه يتصيد الفرص الناتجة عن قصور القطاع العام وبيروقراطيته للقيام بمضارباته واثرائه غير المشروع.
كما ان من المعروف ان اغلب الاقتصاديين غير مثقفين بصورة عامة مما لا يساعدهم على وضع اختصاصهم في اطار ظروف المحيط والبعد التاريخي المناسب، ونظريات التنمية تناسب مصالح الدول المتقدمة صناعيا ولا تناسب الدول المتخلفة. فالانصراف الى المشاريع العملاقة الكثيفة الرأسمال تتطلب الاستقراض واستيراد الآلات المكلفة المعقدة بما لا يراعي ظروف البيئة والمستوى التقني المحلي وينتج عن ذلك تبذير وضياع اقتصادي واجتماعي لا حد له وهذا يجعل التجهيزات الانتاجية نفسها والخدمات الهندسية التي لابد منها لتطوير صناعة حديثة.
من باب الاستغراب هناك هدر للكفاءات البشرية الاساسية في قيام التنمية الشاملة فعلى سبيل المثال في كل سنة يتخرج لدينا المئات من المهندسين والالاف من التقنيين المختصين لكننا لا نتمكن من استيعابهم واستغلالهم وتوظيفهم لأجل اقامة مؤسسات استشارية هندسية في كل المجالات الصناعية والتقنية الدقيقة، اوفي المجالات الهندسية ذات الصلة بنموذجنا التنموي مما دفع الكثير من هذه العقول والخبرات الوطنية الى اختيار الهجرة نحو الخارج حيث الافاق مفتوحة على الابتكار وتحقيق حلم الذات، اما الذين لم تسعفهم فرص الهجرة للخارج فيتحولون الى موظفين او تقنيين يعملون في بيوت الخبرة الاجنبية التي تسرح وتمرح في بلادنا بدعوة من حكوماتنا وتحت راية التنمية والخبرة التي يكدسها الفريق الاجنبي بالممارسة التي نرفضها نحن الشيء الذي يحول دون الاستقلال الاقتصادي والتكنولوجي …
في الحقيقة ان الاعمال المسماة بالتنمية هي في معظمها الاعمال المسؤولة عن بقاء التخلف وعن التبعية وزيادة اختلال توازن المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا.
وان محدودية التنمية عندنا تظهر وبشكل فاضح في عزلة المجال الاقتصادي عن المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية وكثيرا ما سارت اتجاهات متضادة متعاكسة في هذه المجالات ما بين الاقتصادي و السياسي او ما بينهما من جهة معا وما بين التربية والثقافة من جهة اخرى، وكثيرا ما ادت هذه الاتجاهات المتعاكسة الى اجهاض اهداف هذه المشاريع التنموية.
كما تظهر مشاريع التنمية عندنا وكأنها غاية في ذاتها الى درجة ان المحدودية تدفع احيانا الى اعتبار المشروع التنموي في حد ذاته غاية منفصلة عن بقية غايات المشاريع الاخرى الثقافية والتربوية.
امام هذا الواقع الذي يجعلنا نرى الاخطار المحدقة بمشاريعنا التنموية وما يكتنفها من بذور التناقض كان لابد من قيام مؤسسة علمية وطنية الرؤية وعلمية المنهج قادرة على وضع الاطار والهدف العام لأي مشروع تنموي، مع تحليل وتقييم المشاريع التنموية على ضوء تلك المبادئ التي يحددها الاطار العام مع وضع التقديرات والاقتراحات الملائمة لتجاوز العقبات لتسريع وتيرة الانماء, فهل سنحلم يوما باستراتيجية تنموية متكاملة؟

الاخبار العاجلة