“البيض” و”ماطيشة”

17 فبراير 2023آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2023 - 11:16 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
“البيض” و”ماطيشة”

– عزيز لعويسي

لا حديث في الأسواق الشعبية و البيوتات والجلسات والإعلام…، إلا عن حمى الأسعار التي بلغت مداها بشكل غير مسبوق، أخرج النساء والرجال والشباب والأطفال من الطبقات الاجتماعية المتوسطة وما تحتها من الفقراء والبؤساء والغلابى، في عدد من المدن المغربية، للتعبير عن مشاعر الغضب والتذمر والإحباط، احتجاجا على ما آل إليه المعيش اليومي من صعوبات باتت لا تطاق، بعدما امتدت نيران الأسعار إلى مواد غذائية شكلت وتشكل محور وركيزة الغذاء اليومي لشرائح واسعة وعريضة من المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، من طماطم وبطاطس وبصل وبيض، وما يزيد الوضع تعقيدا وبؤسا، أن دائرة النيران امتدت نحو مواد غذائية تعد جزءا لايتجزأ من المائدة المغربية، من قبيل الزيت والحليب والدقيق واللحوم الحمراء والبيضاء والقطاني، ومواد استهلاكية أخرى، زادت طين الآهات والإحباط واليأس وفقدان الثقة بلة.

المغاربة المتضررون من جائحة الأسعار، لم يعد في جعبتهم إلا الاحتجاج لإسماع الصوت، أملا في أن تعـود الأسعار إلى سالف عهدها، على بعد أسابيع من شهر رمضان الأبرك، وصناع القرار السياسي، يراهنون على شن حملات ضد المضاربين والسماسرة والمتلاعبين بالأثمان، وعلى آليات مراقبة المحلات التجارية وأسواق بيع الخضر، وبين هذا وذاك، يحضر الألم والشكوى، ويحضر معهما الجوع، الذي بات شبحا مخيفا يتهدد الكثير من الأسر، في ظل صعوبة الوصول إلى الخضر التي تشكل دعامة القوت اليومي للمواطن، أما اللحوم الحمراء والبيضاء والفواكه والأسماك، فلم تعد تشكل أولوية بالنسبة للمواطنين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود.

الاحتجاجات التي امتدت إلى عدد من المدن عبر التراب الوطني، معناها أن “السيل بلغ الزبى” و”الجلدة وصلات للعظم” كما يقول المثل الدارجي، ودائرة الفقر والبؤس آخذة في التمدد، وأحاسيس اليأس والإحباط وانسداد الأفق في أوساط شرائح واسعة من المواطنين، آخذة في التنامي والاتساع، والوضع الاجتماعي القائم، يفرض دق ناقوس الخطر، وتقدير التداعيات على التماسك والسلم الاجتماعيين، والتعامل مع السياق الاجتماعي القائم، بمنظور التجاهل أو التجاوز أو التبرير أو التسويف، وبعدسة الحملات الموسمية، لــن يكون إلا إسهاما في المزيد من السخط والاحتقان، وإصرارا بقصد أو بدونه، على المساس باللحمة الوطنية والتأثير على تماسك الجبهة الداخلية، التي بدونها يصعب مواجهة التحديات وكسب الرهانات.

تحديات الوحدة الترابية للمملكة، ورهانات التنمية الشاملة التي بشر بها النمـــوذج التنموي الجديد، وضرورات صون مكاسب ونجاحات الدبلوماسية المغربية، ومقاصد دعم السلم الاجتماعي والمحافظة على متانة الجبهة الداخلية، ومؤامرات خصوم وأعداء الوطن، كلها مبررات من ضمن أخـــرى، تفرض أكثر من أي وقت مضى، التدخل “الاستعجالي” لإيجاد الحلول الممكنة والناجعة، لضبط الأسعار وإعادتها إلى وضعها السابـق على بعد أسابيع قليلة من شهر رمضان الأبرك، رأفة ورحمة بشرائح واسعة من المواطنين الذين باتوا وجها لوجه أمام الفقر المدقع ، وما يتربص به من جوع وقسوة وبؤس وقهر.

وإذا كانت الأولوية تقتضي أولا، كبح تزيف الأسعار التي طالت جملة من المواد الاستهلاكية التي تشكل إن صح التعبير “قاعدة بيانات” المائدة الشعبية المغربية، فلابد من الإقرار أن ما نعيشه من “ضيق اجتماعي”، يتجاوز مشكلة “الطماطم” وأزمة “البطاطس” ومأزق “البصل”، بما أن جائحة الأسعار امتدت إلى “الزيت” و”الحليب” و”الشاي” و”اللحوم” و”الأسماك” و”القطاني” وغيرها من المواد الاستهلاكية التي ألهبت الجيوب وأتعبت القلوب.

ما ضرب المائدة المغربية من زلزال عنيف، يطرح أسئلة حقيقية ومشروعة مرتبطة بالفلاحة المغربية، ومدى نجاعة التوجهات والاختيارات الفلاحية، ومدى حضور سياسة ناجعة ومتبصرة في دعم الطبقة الفلاحية خاصة المتوسطة والصغيرة، ومدى استحضار الجفاف الذي بات معطى بنيويا، يقتضي النهوض بالبحث العلمي في مجال الزراعة وإنتاج اللحوم، بما يضمن التوصل إلى حلول مبدعة ومبتكرة، ترتقي بالفلاحة الوطنية، ومدى إخضاع البرامج والمخططات التي طالت وتطال العالم القروي، إلى آليات الحكامة الجيدة وما يرتبط بها من مسؤولية وشفافية وتقييم وافتحاص ومحاسبة وغيرها، ومدى فشل أو على الأقل، مدى محدودية هذه البرامج والمخططات، في تأمين القوت اليومي للمغاربة من الخضر واللحوم والأسماك والقطاني، ومدى استحضار “الأمن الاستراتيجي الوطني” على مستوى الغذاء والدواء والطاقة وغيرها، ومدى اعتبار تداعيات أي ارتباك أو اختلال في سلاسل الإنتاج الفلاحي الوطني على “السلم الاجتماعي”، ومدى مراعاة السوق الوطني، فيما يتعلق بتصدير الخضر والفواكه المغربية إلى الأسواق الخارجية خاصة الأوربية والإفريقية، ومدى القدرة على التصدي لمن يهدد الأمن الغذائي للمغاربة، من المضاربين والمحتكرين والغشاشين والمتلاعبين وتجار الأزمات …

موجة الغلاء، بقدر ما نأسف لها، بقدر ما نرى فيها، فرصة بالنسبة للحكومة “الاجتماعية”، للاستماع إلى “نبض الشعب”، وإدراك ما آل إليه الوضع الاجتماعي من تأزم وتعقيد، قوى ويقوي الإحساس باليأس والإحباط وانسداد الأفق، وتقدير تداعيات ذلك على السلم الاجتماعي وعلى النظام العام، وهي مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإحداث ما يشبه “الانفراج الاجتماعي”، عبر استعجال ليس فقط، إيقاف نزيف الأسعار، بل وإعادتها إلى وضعها السابـق، على بعد أسابيع من شهر رمضان، والبحث عن الحلول المبدعة والخلاقة والمبتكرة، القادرة على تأمين غذاء المغاربة من الخضر والفواكه والأسماك واللحوم، والمضي قدما في اتجاه توفير مخزون استراتيجي وطني، قادر على ضمان سلم اجتماعي مستدام، وتأمين البلد من تقلبات الأسعار الدولية، وقبل هذا وذاك، تمكين البلد من الاستقلالية عن الخارج، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، موسوم بالتوتر والنزاعات والأزمات الفجائية…

موازاة مع الإجراءات المذكورة، فالحكومة لابد أن تراعي “القدرة الشرائية للمواطنين” التي باتت تقف عند عتبة الانهيار في ظل جائحة الأسعار، وهي مطالبة اليوم، بدعم هذه القدرة الشرائية، عبر الانخراط في حوار اجتماعي حقيقي مع الفاعلين الاجتماعيين، يدفع في اتجاه الرفع من أجور الموظفين وأجراء القطاع الخاص، وتمكين الشباب من خريجي الجامعات والمعاهد من الحق في الشغل، وتشجيع ودعم مبادرات التشغيل الذاتي، والنهوض بالتربية والتعليم، والارتقـاء بمنظومة الصحة العمومية، بما يضمن الحق في الولوج إلى الخدمات الصحية المجانية، والحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية، وتوفير مناخ آمن للاستثمار، عبر توفر إرادة حقيقية في محاربة الفساد والتصدي الحازم لأي مساس بالمال العام، وإرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات والمساواة والعدالة الاجتماعية، وربط المسؤولية بالمحاسبة وتفعيل آليات عدم الإفلات من العقاب، والانخراط المستمر في شن معركة مستدامة ضد “الفارين من جندية الضريبة”…

مسؤولية الحكومة في إحداث الانفراج الاجتماعي المأمول، لايمكن أن يحجب مسؤولية البرلمان، في تحمل مسؤولياته الدستورية، في مراقبة الأداء الحكومي والإسهام في التشريع، والاضطلاع بدور المعارضة البناءة، العاكسة لنبض المواطنين وانتظاراتهم وتطلعاتهم، ومسؤولية المؤسسات والهيئات المعنية بالمحافظة على المال العام والحكامة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات، ومجلس المنافسة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وهذه المؤسسات والهيئات وغيرها، لابد أن تضطلع بأدوارها كاملة، في حدود الاختصاصات المسندة إليها، من باب الإسهام المؤسساتي، في تخليق الحياة العامة، ومسؤولية أحزاب سياسية، استهوتها أضواء السياسة، ولم تعد تلتفت للمواطنين إلا في زمن الحملات الانتخابية المسعورة، ومسؤولية مواطنين، يختارون الوصوليين والانتهازيين ومنعدمي الضمير، ومسؤولية إعلام وطني حقيقي، وجب عليه، أن يعبر عن “نبض الشعب”، ويواكب ما يجري في الساحة المجتمعية، بمهنية وأخلاق، بعيدا عن “التصفيق” و”التطبيل” و”المحاباة” و”الموالاة”…

وقبل الختم، نؤكد مجددا أن “الانفراج الاجتماعي المأمول”، يمر أولا عبر “إعادة الأسعار إلى سالف عهدها” و “دعم القدرة الشرائية للمواطنين”، وتجنب أي تشريع أو مخطط، من شأنه الإجهاز على القدرة الشرائية للمواطنين، والمساس بالسلم الاجتماعي، والرفع من منسوب اليأس والقلق والإحباط، ونوجه البوصلة في هذا الإطار، إلى “خطة إصلاح صناديق التقاعد”، التي تنوي الحكومة تنزيلها، وهذه الخطة كما يروج لها، من شأنها ضرب القدرة الشرائية في الصميم بدل دعمها، كما من شأنها تهديد حاضر ومستقبل شرائح واسعة من الموظفين، وإذ، نثير “خطة إصلاح التقاعد” قبل ختم هذا المقال، نؤكد أن الظرفية الاجتماعية الراهنة، الموسومة بالاحتقان والإحباط واليأس، تفرض على الحكومة التحلي بالحكمة والتبصر والتفكير الرصين والمسؤول، بعيدا عن لغة “الاستقواء” أو “الاستعلاء” أو “فرض الأمر الواقع”، وأن تنخرط بتأني وبدون “وصفات جاهزة”، في حوار جدي ومسؤول مع النقابات الأكثر تمثيلية، في أفق تنزيل إصلاح متوازن، داعم للقدرة الشرائية للموظفين وليس مدمرا لها، ونرى حسب تقديرنا، أن أي مساس بتقاعد الموظفين وأي عبث بمستقبلهم المهني، لن يكــون إلا جريمة في حق الموظفين مع “سبق الإصرار والترصد”، لا أحد يمكنه التكهن بتداعياتها وآثارها الاجتماعية والمادية والنفسية على أسر مغربية “ماقدها فيل، زادوها فيلة”… على أمل أن تكون الحكومة التي وصفت نفسها بالاجتماعية، في مستوى المرحلة، وما تقتضيه من مسؤولية وحكمة وتبصر …

ونختم المقال، بالإشارة إلى أن العنوان أعلاه، ليس من باب الإثارة، أو إعلان رسمي عن زواج قسري بين ”البيض” و”ماطيشة”، أو إحداث ما يشبه الزوبعة في قاموس الكلمات، أو عصيانا على سلطة القوافي والأبيات، ولكن هو اختيار مقصود، ننبه من خلاله صناع القرار السياسي والاجتماعي، أن الأسعار بلغت مداها، والقدرة الشرائية باتت تقف عند حافة الانهيار، وشبح الجوع، بات يلوح في الأفق، بل وربما حل ضيفا ثقيلا على الكثير من الأسر الفقيرة والمعوزة، ويكفي قولا، أن وجبة “البيض” و”ماطيشة”، التي ظلت منذ سنوات، وسيلة من وسائل مقاومة صعوبات المعيش اليومي ومحاربة شبح الجوع، بالنسبة للفقراء والبسطاء والغلابى، باتت اليوم صعبة المنال، بعدما بات البيض يتبختر فوق سطح “الفكرون”، وأصبحت الماطيشة “دايرا كرون”، وبين “الفكرون” و”الكرون”، مساحة قد تطول وقد تقصر، لكنها تسمح بالقول أن مغرب اليوم، يحتاج إلى من فيه “النية”، القادر على خدمة الوطن بوفاء وسخاء ونقاء، لا لمن فيه “قلة النية”، الذي يعرقل عجلة البناء والنماء، ويحرم الوطن من فرص النهوض والإشعاع والبهاء، وعليه، فمعركة اليوم ابتداء وانتهاء، هي معركة التصدي لجائحة “قلة النية”، حتى نحيى جميعا بكرامة بكبرياء ويسمو الوطن بعنفوان وبهـاء … ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، فالوطن أمانة، فبئس لمن يخون الأمانة …

الاخبار العاجلة