إسبانيا “البطوشية” : الوصول إلى الباب المسدود

15 يونيو 2021آخر تحديث : الثلاثاء 15 يونيو 2021 - 10:23 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
إسبانيا “البطوشية” : الوصول إلى الباب المسدود

– بقلم : عزيز لعويسي

الذي تنكشف عورته أمام الملأ، يفتـرض فيه أن يخجل ويستحيــي ويتوارى عن الأنظــار، من باب الكرامة وحفظ ماء الوجه، ونقصد من وراء هذا الكلام، الجارة الشمالية إسبانيا التي انتهكت سلطة القانون والقضاء وحقوق الإنسان ومبادئ حسن الجوار والقيـم الأوربية وكل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وهي تتــورط في فضيحة “محمد بن بطوش” بتــآمر مع جنرالات الســوء من بلاد “بن بطوش”، وبـدل الانحناء أمام عاصفة الفضيحة الكبرى وانتظار ذوبـان جليد التوتر غير المسبوق مع الرباط، في انتظار أن تعود المياه إلى مجاريها، لم تخجل من عورتها المكشوفة أمام العلن، وتمادت في ممارسات “تخــراج العينين” و”التسنطيحة” و”الهروب إلى الأمام” و”بعثرة الأوراق” و”إخفاء الحقائق” و”المناورة” في إطار “دبلوماسية متحورة” فاقدة للبوصلة لا تستقر على حال.

في هدا الصدد، وفي ظل ما مارسه عليها المغرب من ضغط دبلوماسي بسبب مجرم الحرب المغضوب عليه “محمد بن بطوش”، لم تجد الحكومة الإسبانية بدا من الاستنجاد بالاتحاد الأوربي، بل ومحاولة توريطه في أزمتها مع الرباط، عبر إدراج برلمانيين إسبان لمشروع قرار بالبرلمان الأوروبي حول ما وصف بتوظيف مزعوم للقاصرين من طرف السلطات المغربية في أزمة الهجرة في مدينة سبتة المحتلة قبل أسابيــع، وعلى عكس ما كان يتطلع إليه الإسبان من استصدار عقوبة في حق المغرب أو إدانته على الأقل، ارتفعت مجموعة من الأصوات العاقلة والمسؤولة داخل البرلمان البرلماني التي لم تساير أهواء ومزاعم الحكومة الإسبانيـة الفاقدة للبوصلة تماما، ليتم الخروج بتوصيـة لم تـرتق إلى مستوى الإدانة الحقيقية للمغرب كما كان يتطلع إلى ذلك الإسبان، رغم ما مارسوه من ضغوط متعددة الزوايا داخل أروقة البرلمان الأوربي، ودون النبش في حفريات كواليس هذه التوصيـة غير الملزمة، أو الخوض في تفاصيل ماورد فيهـا من مصطلحات قانونية وسياسية ودبلوماسية، يمكن إبـداء الملاحظات التالية :

إسبانيا “البطوشية” الفاقدة للبوصلة تماما، ورطت البرلمان الأوربي في أزمة ليس طرفا فيها، بشكل جعله يخترق التزاماته وتعهداته مع البرلمان الإفريقي، والتي تقضي بعدم تدخل البرلمانين في القضايا الثنائية بين دولتين أوربية وإفريقية.

البرلمان الأوربي زكى الطرح الإسباني برفضه “استخدام المغرب ملف الهجرة، وعلى وجه الخصوص للقصر غير المصحوبين بذويهم، كوسيلة لممارسة الضغط السياسي على دولة عضو في الاتحاد الأوربي” من باب “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، بل ولم يجد حرجا في توسيع حدود الاتحاد الأوربي لتشمل المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية، في اعتداء جسيم على معطيات التاريخ وحقائق الجغرافيا التي لايمكن قطعا حجبها بشمس المناورة أو المؤامرة أو الهروب إلى الأمام.،

ما أقدمت عليه الجارة الإسبانية عن طريق ممثليها بالبرلمان الأوربي، يعكس مرة أخرى عمق العداء الإسباني للمغرب ولوحدته الترابية ومصالحه الاستراتيجية.،

اللعب بورقة “الهجرة غير النظامية” لتحميل المغرب مسؤولية ما وقع في مدينة سبتة المحتلة، هو مؤامرة ثانية بعد مؤامرة “بن بطوش”، الهدف منها توريط الاتحاد الأوربي في أزمة ثنائية لا ناقة له فيها ولا جمل، وفي هذا الصدد، فقد نجح الإسبان في توريط البرلمان الأوربي في أزمة ثنائية بين بلدين جارين، بدليل اتساع دائرة البرلمانيين الأوربيين الذي انتقدوا بشدة إقحام مؤسستهم البرلمانية في الأزمة القائمة بين الرباط ومدريد، وعارضوا تمرير زملائهم لقرار معاد لشريك مهم للاتحاد الأوربي من حجم المغرب، وبدليل أيضا، ما تلقاه البرلمان الأوربي من انتقادات واسعة من عدة مؤسسات وأجهزة، ونخص بالذكر الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والبرلمانين الإفريقي والعربي ومجلس التعاون الخليجي في شخص أمينه العام ومنظمة المؤتمر الإسلامي.،

الترافع الإسباني بالبرلمان الأوربي دفاعا عن القاصرين، هو لعبة مفضوحة، لاعتبارين اثنين : أولهما: ما مارسته السلطات الأمنية والعسكرية بمدينة سبتة المحتلة في حق المهاجرين غير النظاميين الذين تسللوا إلى المدينة، من ممارسات العنف الذي تجاوز مداه، ومن مشاهد القمع والإهانة والتجويع، في انتهاك جسيم لاتفاقية حقوق الطفل وللحقوق المكفولة للمهاجرين غير النظاميين بموجب الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ثانيهما: أن الحكومة الإسبانية هي آخر طرف يمكنه رفع يافطة الحريات وحقوق الإنسـان، بعدما تورطت في فضيحة استقبال مجرم حرب بجواز سفر مزور، وضمان استشفائه، بل والسماح له بمغادرة التراب الإسباني في اعتداء واضح على حقــوق الضحايا وجلهم مواطنين صحراويين حاملين للجنسية الإسبانية.

البرلمان الأوربي وهو يدفع بورقة هجرة القاصرين لمؤازرة ودعم إسبانيا/البطوشية، يكـون قد تجاوز الحدود، وهو يحشر نفسه في صلب اتفاقية أممية ليست له أية صلاحية قانونية للنظر في مدى احترامها، وحتى إذا ما قبلنا بذلك من حيث الشكل، كان من الأولى أن يوجه البوصلة نحو ما يتعرض له المهاجرون غير النظاميين عموما والقاصرين خصوصا في مراكز الايــواء بإسبانيا من سوء معاملة ومس بالكرامة وبحقوق الإنسـان، كما كان عليه، أن يتوقف عند أحداث سبتة المحتلة، وما تخللها من تجاوزات خطيرة ماسة بالكرامة الإنسانية مورست من قبل القوات الأمنية والعسكرية الإسبانية داخل المدينة المحتلة، في حق مهاجرين سريين عزل ومنهم أطفال قاصريــن، كان يفترض أن تتم معاملتهم وفق مقتضيات وضوابط اتفاقية حقــوق الطفل، لكنهم استقبلوا بالعنف والإهانة، وهذا يؤكد أن الاتحاد الأوربي يستعمل آليات الحريات وحقوق الإنسان، لممارسة الضغط والتصعيد والتعالي والابتزاز.

الأحداث التي كانت مدينة سبتة المحتلة مسرحا لها، وقعت في مجال جغرافي مغربي إفريقي، وأي تصور خارج هذا النطاق، لن يكــون إلا اعتداء على السيادة المغربية وإهانة لإفريقيا ولكل العرب والأفارقـة، ومن جهة ثانية، فالاتحاد الأوربي هو مجال جغرافي أوربي خالص يضم حاليا 27 دولة بعد الانسحاب البريطاني، وإدماج مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين داخل هذا الفضاء الأوربي، هو أكذوبـة ومناورة لا يقبلها عقل ولا منطق ولا قانون ولا تاريخ ولا جغرافيا، وبالتالي، فالبرلمان الأوربي وحتى الاتحاد الأوربي ذاته، لايملك سلطة التدخل أو إبداء الرأي أو الموقف في قضية ثنائيـة بين بلدين جاريــن، أسبابها واضحة للعيان.

ما صدر عن البرلمان الأوربي من قرار، يؤكد مرة أخرى ازدواجية الخطاب الأوربي في التعامل مع الشركاء الجنوبيين، كما يؤكد أن ما يدعيه هذا التكتل الأوربي من قيم ديمقراطية وحقوقية بات ليس فقط موضوع سؤال، بل وآليات لممارسة الاستفزاز والابتزاز والضغط، في سبيل تحقيق مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية، بدليل أنه التزم الصمت ولم يحرك ساكنا في فضيحة “محمد بن بطوش” التي شكلت ضربة موجعة للقيم الأوربية المشتركة، ولم يتخذ أي قـرار إدانة للحكومة الإسبانية “البطوشية” وهي تخترق القانون والقضاء والعدالة وحقوق الإنسان وكل الأعراف الدبلوماسية باستقبالها لمجرم حرب، وبالمقابل، وجه البوصلة بأكملها نحو المغرب ونحو ملف الهجرة غير النظامية.،

حتى إذا ما قبلنا بطرح “الهجرة غير النظامية”، فلابد من الإشارة أن المغرب ليس “حارسا” لأوربا ولا “دركيا وفيا” يؤمن حدودها ويضمن أمنها واستقــرارها، وما وقع بمدينة سبتة من تدفقات غير مسبوقة لمرشحي الهجرة السرية، يعكــس بجلاء الدور المحوري الذي يقوم به المغرب في مجال مكافحة الهجرة السرية، وفي ضمان أمن واستقرار أوربا، وهذا الدور المحوري لابد أن يوازيـه دعما حقيقيا، لأن ما يتلقاه المغرب من دعم أوربي لايوازي أبدا حجم ما يبدله من مجهودات، لذلك آن الأوان، لوضع النقط على الحـروف، بالتنصيص على أن قضية الهجرة هي قضية مشتركة بين بلدان ضفتي المتوسط، لابد أن تخضع لما تفرضه الشراكة من تعاون وتشارك وتوازن ومسؤولية واحتــرام متبادل، بعيدا عن ممارسات الضغط والابتزاز والاستفزاز والتعالي والاستقواء والكبرياء، وبمعزل عن دور “الأستاذ” و”التلميذ”.،

استنجاد الحكومة الإسبانية بالاتحاد الأوربي في أزمتها مع الرباط، هو دليل قاطع أن المغرب بات قوة إقليمية صعبة المراس لايمكن إنكارها أو إقصاؤها أو تجاهلها، وإذا كان قرار البرلمان الأوربي لم يأت كما اشتهت سفينة إسبانيا “البطوشية”، ولم يحقق “الإجماع الأوربي” الذي كانت تعول عليه مدريـد في أزمتها مع الرباط، فهذا معناه ان الكثير من الأصوات الأوربية باتت مقتنعة بأهمية المغرب كشريك استراتيجي للاتحاد الأوربي، أصبح معادلة صعبة فيما يتعلق بأمن واستقرار الفضاء الأوربي، ويكفي قولا أن المغرب جنب أوربا وحتى أمريكا الكثير من حمامات الدم، لقوته الاستخباراتية الرائدة عالميا.،

المغرب أشهر ورقة “مرحبا 2021” في وجه الإسبان، بأن استثنى الموانئ الإسبانية بما في ذلك مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من هذه العملية، مما سيلحق خسائر مالية جسيمة بالاقتصـاد الإسباني قدرت بالملايين من الأورو، وهذا معناه أن إسبانيا ظلت لسنوات “تأكل الغلة وتسب الملة” ســواء تعلق الأمر باستفادتها من حركة مرور المهاجرين المغاربة كل موسم صيف، أو عبر ما كانت تجنيه من أرباح طائلة في إطار “التهريب” عبر معبري سبتة ومليلية المحتلتين، ومع ذلك، ظلت وفية كل الوفـاء لعدائها الخالد للوحدة الترابية للمملكة، وكما أشهر المغرب ورقة “مرحبا 2021″، فبدون شك، سيشهر ورقة وضع حد لأنبوب الغاز الجزائري المتجه نحو إسبانيا عبر التراب المغربي، ولازالت في جعبته أوراق عدة، قادرة على تركيع الإسبان، الذين ثبت أن لا قيمة لهم بدون الاتحاد الأوربي كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا.،

برمي إسبانيا الكرة في مرمى البرلمان الأوربي، أصبح المغرب وجها لوجه أمام اتحاد أوربي بكل ثقله الاقتصادي ووزنه السياسي والدبلوماسي والإشعاعي، ومن باب الإنصاف، لايمكن إلا أن نثمن المواقف المسؤولة التي عبرت مؤسسات وأجهزة إقليمية دعمت الموقف المغربي، من قبيل الجامعة العربية والبرلمانين العربي والإفريقي والأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كما نثمن إعلان البرلمان العربي عن جلسة طارئة بالقاهرة يــوم 26 يونيو الجاري، تفاعلا مع القرار الذي أصدره البرلمان الأوربي بشأن المغرب، وهذه المؤسسات والأجهزة وغيرها، آن الأوان لتتحمل مسؤولياتها كاملة، لتقف بحزم وجرأة أمام المؤسسات الأوربية التي لازالت مصرة على التعامل مع البلدان العربية والإفريقية بمنطق “الأستاذ” و”التلميذ”، بكل ما يرتبط بذلك، من وعد ووعيد وتنديد وتصعيد وابتزاز وتحكم واستفزاز واستغلال.،

البرلمان الأوربي، أدخل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ضمن حدود الاتحاد الأوربي، وهذا يعد مساسا بسيادة المغرب وإهانة لبلدان وشعوب القارة الإفريقيــة، والاتحاد الإفريقي لابد له أن يتصدى للأكاذيب والمناورات الأوربية الحاملة لحمولات إمبريالية توسعية وتحكمية واستغلالية، ليس فقط من باب الإدانة والاحتجاج، ولكن أيضا من باب الترافع على مستوى الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية من قبيل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الأوربية ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية وغيرها، بما يضمن تفنيد المزاعم الأوربية الاستعمارية، حرصا على أمن إفريقيا وسلامة ووحدة أراضيها، وفي هذا الإطار، لابد للمغرب أن يستثمر علاقاته الثنائية والمتعددة الأطراف، ويسخر المؤسسات المتاحة ومنها على الخصوص الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي والبرلمانين العربي والإفريقي، لتقوية مواقفه، وهو في رحلة البحث عن الكرامة والسيادة والوحدة والاحترام والتوازن.،

تبين بالملموس أن الخيط الناظم الذي يؤطر السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي خاصة مع بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، هو “المصلحة” ولا شيء غيرها، وما يتم الترويـج له من قبل الاتحـاد، من ديمقراطية وحريات وحقوق إنسان واتفاقيات دولية، ما هو إلا أكاذيب ومزاعم تمارس للضغط والتصعيد والابتزاز والاستفزاز والتحكم ولي الأذرع والاستغلال والاستعلاء.،

كما ناورت إسبانيا/البطوشية بالبرلمان الأوربي في محاولة لكسب إجماع برلماني أوربي يدين المغرب، فلابد للمغرب أن يتحـرك في اتجاه الاتحاد الإفريقي والبرلمان الإفريقي والجامعة العربية والمنظمات الإقليمية والدولية، للتنديد بفضيحة “محمد بن بطوش”، وبانتهاك البرلمان الأوربي للسيادة المغربية والإفريقيـة، بعدما وسع حدود أوربا لتشمل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، في اعتداء صريح على التاريخ والجغرافيا.،

إسبانيا ظلت طيلة عقـود تستفيد من ثمار الشراكة الأوربيـة مع المغرب، ومع ذلك ظلت وفية لمعاداتها للوحدة الترابيـة للمملكة، وفي ظل هذا الوضع المأسوف عليه، لم يكن أمام المغرب من بديل، سوى إحكام الخناق عليها وتجريدها بشكل ناعـم، مما كانت تستفيد منه من مكاسب وغلات، والبداية كانت بإغلاق معبري المدينتين المحتلتين، وباستثناء المــوانئ الإسبانية من عملية مرحبا 2021 التي ستكبد الاقتصاد الإسباني خسائر مالية فادحة، وبإمكانية الاتجاه نحو عدم تجديد الاتفاقية المرتبطة بأنبوب الغاز الجزائري الإسباني العابر للتراب المغربي، في انتظار إعادة النظر فيما يربط الرباط بمدريد وبالاتحاد الأوربي من شراكة استراتيجية تحضر فيها عقلية المعاداة والاستعلاء والابتزاز والاستغـلال.،

المواقف الإسبانية والأوربية المعادية للوحدة الترابية للمملكة، انتبه إليها المغرب بعمق وتبصر منذ سنوات، مما جعله يبحث عن أصدقاء وشركاء وحلفاء حقيقيين خارج البيت الأوربي، من قبيل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصين وبلدان الخليج العربي وتركيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو ملزم أكثر من أي وقت مضى، بتوسيع قاعدة الشركاء نحو بلدان وسط وشرق أوربا، لتقوية جبهة الأصدقاء والشركاء داخل الاتحاد الأوربي، وبهذا النهج الاستراتيجي، يمكن التخلص من الوصاية الأوربيـة، بما يضمن التأسيس لشراكة حقيقية مع الجيران الأوربيين مبنية على قواعد الاحترام والمسؤولية والتعاون والتوازن وحسن الجوار، في ظل مواقف حقيقية وواضحة بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة، التي باتت من الآن، أساس وأس أية شراكة مستقبلية للمغرب.،

على خلاف ما قد يظنه البعض، فأزمة “بن بطوش” كانت نقمة على الإسبـان، لكنها كانت “نعمة” بالنسبة للمغرب، لأنها أسقطت أقنعة إسبانيـا والبرلمان الأوربي ومن خلاله الاتحاد الأوربـي، كما أسقطت أقنعة كبرانات “آل بطوش” ودمية “البوليساريو”، وهذه الأقنعـة الساقطة، رفعت من جرعات الحزم ومن منسوب المواجهة والتحدي، وأسست لمغرب جديد بات “قوة إقليمية” رغم أنف الأعداء والحاقدين والمتربصين.،

تمسك الجارة الإسبانية بورقة الانفصال لممارسة المزيد من الابتزاز الناعم للمغرب، يضعنا أمام دولة متناقضة تماما في مواقفها، فمن جهة تدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، ومن جهة ثانية ترفـض الانفصال داخل أراضيها، بل وتتصدى له بما يلزم من الحزم والقوة والعنـف، وإذا ظلت الرباط طيلة سنوات خارج دائرة الانفصال الإسباني من باب المسؤولية والثبات على المواقف وحسن الجوار، فقد آن الأوان لإشهار ورقة الانفصال في وجه إسبانيا، إذا ما استمرت في دبلوماسية المعاداة من باب “الانفصال” مقابل “الانفصال”.

أزمة الرباط ومدريد، هي أزمة تتجـاوز المغضوب عليه “بن بطوش” على خلاف ما قد يظنه البعض، وحتى إذا ما تمت معالجتها بشكل أو بآخر، فهذا لن يحجب حقيقة ما تتخبط فيه العلاقات المغربية الإسبانية من مشاكل متعددة المستويات، مرتبطة بالأساس بقضية الصحراء المغربية وبملف سبتة ومليلية والجزر المحتلة، مما يفرض الدخول في مفاوضات حقيقية بين البلدين الجارين في إطار من المسؤولية والالتزام والوضوح والشفافية مراعاة لحسن الجوار وللمصالح المشتركة، بعيدا عن منطق الابتزاز الذي لم يعد له مكان في قاموس مغرب اليوم ، وفي هذا الإطار، فالإسبان لابد أن يتفهموا أن “مغرب اليوم ليس كمغرب اليوم” وأن يدركوا المتغيرات الجديدة المرتبطة بالسياق الجيوسياسي، وأن ينتبهوا أن مصلحتهم مع المغرب وأن أمنهم واستقرارهم من أمن واستقرار المغرب ووحدة أراضيه.

في جميع الحالات، نحن أمام دبلوماسية إسبانية “متحورة” متغيرة باستمرار لاتستقر على حال، تجمع بين “التهور” الذي تحركه أوهام الماضي الاستعماري وما يرتبط به من عنصرية واستقواء واستعلاء وابتزاز واستغلال، و”الغبـاء” الفاقد للبوصلة تماما، والذي ينظر إلى العشب ولا ينظر إلى الحافة، فبلغة الحساب، فقد تورطت الحكومة الإسبانية في فضيحة استقبال مجرم حرب على أراضيها بتآمر مع كبرانات “آل بطوش” في إطار العداء المشترك للمغرب ووحدته الترابية، لكنها أساءت إلى مصداقيتها كدولة يفترض أن تتصرف بما يلزم من الحكمة والمسؤولية والتبصر، كما أساءت إلى سمعة قانونها وعدالتها، واستنجادها بالبرلمــان الأوربي، معناه أنها حكومة ضعيفة ومرتبكة، لم تقو على مجابهة الضربات الناعمة للدبلوماسية المغربية العاقلة والمتبصرة، ولم يعد في جعبتها سـوى اللعب المكشوف بورقة المناورة والهروب إلى الأمــام، برفع القضية إلى مستوى البرلمان الأوربي والرهان على حشد الإجماع البرلماني الأوربي ضد المغرب، لكنها أخفقت في مناورتها الوضيعة، بعدما تعالت الأصوات الرافضة للمناورة الإسبانية داخل أروقة البرلمان الأوربي، لتكون النتيجة غير المتوقعة، الظفر بتوصية برلمانية أوربيـة غير ملزمة “لا تقدم ولا تؤخر” غاب فيها “الإجماع الأوربي” الذي كانت تتمناه مدريـد، وهي تبحث عن سند أوربي يحفظ ماء وجهها وينتشلها من وحل المؤامرة البطوشية العظمى، بل أكثـر من ذلك، فقد ورطت البرلمان الأوربي ليخوض في أزمة ثنائية، جعلته في قلب عاصفة من الإدانة والانتقاد داخل أوربا وخارجها.

ويبدو أن “لعنة بن بطوش” لازالت تطارد الحكومة الإسبانية كالشبح، بعدما فشل رئيسها “بيدرو سانشيز” في لقاء الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على هامش قمة حلف الشمال الأطلسي المنعقدة ببروكسيل، ماعدا الظفر بلقاء عابر عبور السحاب مع الرئيس الأمريكي لم يتجاوز عمره أقل من 30 ثانية، في ممر المركز الذي يحتضن اجتماع قمة رؤساء الحلف، خلافا لما روجت له الحكومة والإعلام الإسباني قبل أيام، واستقراء لمشهد هذا اللقاء الخاطف، فقد حضرت مفردات التجاهل والتعالي والإقصاء وانعدام الرضى من الجانب الأمريكي، مقابل مفردات التودد والمحاباة والانبطاح والمهانة والخضوع من الجانب الإسباني، وهذه الصورة المزعجة للإسبانيين، كانت متوقعة أو على الأقل لم تكن مستبعدة، لأن الحكومة التي تضع يدها في يد العصابات الإجرامية وتطبع مع مجرم حرب وتنتهك القانون والقضاء وحقوق الإنسان، وتضحي بجار وشريك استراتيجي من حجم المغرب لإرضاء جيران السوء، لن تكون إلا حكومة متهورة وغبية، لايمكن أن تجني إلا الخيبات وتتلقى إلا الصفعات.

ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، فالمغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، ومناورات إسبانيا “البطوشية”، لم توقف الأسد الإفريقي الذي زأر لأول مرة في الصحراء، ولم تقو حتى على زحزحة القرار الأمريكي القاضي بالاعتراف بمغربية الصحـراء، ولم تستطيع كبـح جماح “دبلوماسية القنصليات”، ولا حتى مسايرة الحضور الوازن للمغرب في العمق الإفريقي، ولم تمنع الرباط من قرار استثناء الموانئ الإسبانية من عملية مرحبا 2021 الذي يرتقب أن يكبد الاقتصاد الإسباني خسائر مالية فادحة، وهي ورقة من ضمن أوراق أخرى كثيـرة، بإمكان المغرب أن يشهرها في وجه الإسبـان، إذا ما استمروا في دبلوماسية التهـور والغباء، التي لا تنتـج إلا المزيد من البؤس والعزلة والإهانة … ولا تزيد الدبلوماسية المغربية إلا قوة وحزما وامتدادا وإشعاعـا…

ونرى في خاتمة هذا المقال أن “إسبانيا البطوشية” وصلت إلى الباب المسدود، وليس أمامها اليوم، إلا البحث عن منفذ يخلصها من “لعنة بن بطوش”، و”اعتذار رسمي” و”اعتراف صريح بمغربية الصحراء”، يكفيـان لتذويب كرة الخلاف مع الرباط، بشكل يسمـح بفتح صفحة جديدة بين البلدين الجاريـن مبنية على التوازن والمسؤولية والاحترام وحسن الجوار، تطلق العنان لشراكة حقيقية تتحقق معها أهداف الوحدة والأمن والاستقرار ومقاصد التعاون المشترك والمصالح المتبادلة … وأية مناورة أخرى، لن تحمل للإسبان، إلا المزيد من العزلة والبؤس والتواضع والخيبات والنكسات …

الاخبار العاجلة