صحافيون .. قناصون في موسم البكالوريا

12 يونيو 2021آخر تحديث : السبت 12 يونيو 2021 - 10:08 مساءً
admintest
كتاب وآراء
صحافيون .. قناصون في موسم البكالوريا

– بقلم : عزيز لعويسي

هناك موسم الصيد وموسم القنص وموسم الورود وموسم حب الملوك وموسم جني الزيتون وموسم الحصاد وموسم الصيف …، وهناك أيضا “موسم البكالوريا” الذي بات موعدا سنويا، يتيح لبعض “الصحافيين” فرص الصيد في محيط مراكز الامتحانات، بحثا عن عينات من التلاميذ لصناعة محتويات تحقق المطلوب من الاثارة والمأمول من نسب المشاهدة والمتابعة، وفي هذا الصدد، وطيلة أيام الامتحان الوطني الموحد لنيل شهادة البكالوريا في دورته العادية، لايكاد يمر يوم، دون أن تستوقفنا مقاطع فيديو تعرض لعينات من التلاميذ، يتم اصطيادهم بحرفية ودقة وعناية – بمجرد مغادرتهم لقاعات الامتحان- ويتم استدراجهم ودفعهم لإبداء انطباعاتهم و ارتساماتهم بخصوص أجواء الامتحان وفق أسئلة “غير بريئة” تبحث عن “الإثارة” أو بتعبير أدق عن “البوز” الذي بات جائحة تتهدد جسد الصحافة، ربما أخطر من جائحة كورونا.

ورغم اختلاف الأزمنة والأمكنة والأطراف، فما هو باد للعيان، أن كل الفيديوهات التي تدوولت بقوة – طيلة أيام الامتحان الوطني – على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، تكاد تكــون “نسخة طبق الأصل” على مستوى المحتوى “المنحط” و”الساقط”، وبتعبيـر واضح وأدق، فلمـا يتــم اختيــار “عينـة” من التلاميــذ الفاشليـن والمنحطيــن، ويتــم منحهـم فــرص الظهــور أمــام عدسـات الكاميــرا، ويتــم السمـاح لهــم بالتحدث بلغــة ساقطــة ومنحطــة مخلـة بالحيــاء أحيـانـا، ويتم استدراجهم عبر أسئلة “غير بريئة” من قبيل “واش نقلتي؟”، “واش دارت النقلة؟”، “واش “كيتي” – الكيت – ؟”، “واش الامتحان كان صعيب ولا ساهل” ؟…، فهذه ممارسات من ضمن أخرى تضرب مصداقية امتحانات البكالوريــا وطنية كانت أو جهويـة، وتبخـس المجهـودات المتعددة الزوايـا التــي يبذلها نساء ورجال التعليم في سبيـل إنجــاح هذه الاستحقاقات، بــدءا من الإعـداد وانتهـاء بالإعـلان عن النتائـج، وتكرس الإحسـاس الجماعي بإفــلاس المؤسســة العمومية، وتقدم نماذج من التلاميـذ المتهوريــن والمفلسيـن الذين لا يعبرون عن الوجه الحقيقي للمدرسة العمومية.

وتزداد الصورة ضبابية، إذا ما أخذنا بعيــن الاعتبار أن المحتويات المذكورة تلقى انتشارا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتنتقل في أوساط الناشئـة من المتعلمات والمتعلمين كما تنتشر النــار في الهشيـم، وفي هذا المستوى من النقــاش، فالصحافة أو “شبه الصحافة” على وجه التحديد، تساهم بقصـد أو بدونـه، في الترويــج لمفهوم جديد للمتعلم (ة) مرادف للفشل والعجز والتواضع والتواكل والانحطاط والبـؤس المعرفي والأخلاقي والقيمي، وهذه الصورة السلبية والمقلقة في ذات الآن، من شأنها التأثيـر على العمليات التعليمية التعلمية والتشويــش على التلاميذ المجدين والمكافحين، والتطبيـع مع الغــش وكل المصطلحات الدائرة في فلكه، وفي هذا الإطار، فلايمكن استبعاد تأثر بعض المتعلمات والمتعلمين، وهم يتابعون ويتقاسمون تصريحات تلاميذ كسالى ومتواكلين ومتهاونين طول السنة، يفتخرون فيها بأنهم مارسوا عملية الغش، بل ويستعرضون علنا وبدون حرج أو حيــاء بعض الطرق والوسائل الاحتيالية المستعملة في فعل الغـــش، وإذا لم يكن المتعلم (ة) محصنا على مستوى القيم والأخلاق، قد يخطو الخطوة الأولى في مضمار التهور والانحطاط.

قد يقول قائل، أن ما تقوم به الصحافة في موسم الامتحانات من تغطيات ومن رصد للانطباعات والارتسامات، هو عمل يدخل في صميم مجال تدخل مهنة صاحبة الجلالة، وهو طرح قد نتفق معه من حيث الشكل، لكن نعارضه جملة وتفصيلا من حيث المضمون، لاعتبارات ثلاثة :
– أولها: أن استهداف المترشحات والمترشحين من قبل بعض الصحافيين مباشرة بعد خروجهم من قاعات الامتحان، هو فعل غير تربوي من شأنه التشويش على الأذهان، في لحظة تقتضي التركيز والابتعاد عن كل المؤثرات، كما تقتضي تحصين كل العمليات المرتبطة بالامتحانات.
– ثانيها: أن استهداف نماذج معينة من المتعلمين/الممتحنين يتقاسمون الكسل والتهاون والبؤس والانحطاط، هو ممارسة بعيدة كل البعد عن ضوابط المهنة وأخلاقياتها، لأن “القصد” يتجه نحو البحث عن الإثـارة التي من شأنها أن تحقق أعلى نسب المتابعة والمشاهدة، وليس القيام بممارسة مهنية رصينة.
– ثالثها: إذا كانت الغاية هي صناعة محتوى، فهذا المحتوى يمكن صناعته خارج موسم البكالوريا، لأن المجتمع يعج بالظواهر والمشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تحتاج لعيون إعلامية ثاقبة وأقلام صحافية رصينـة ومتبصرة.

وحتى إذا ما قبلنا بأحقية الصحافي في رصد أجواء الامتحانات، فمن المفروض أن يتم استجواب عينات مشرقة تقـوي الثقة في المدرسة العمومية، كما تقوي الإحساس بوجود جيل مشرق من الناشئـة، تتحقق معه رهانات الإصلاح والنماء الشامل، وهذه العينات حاضرة بقوة في مدارسنا العمومية، وبحكم واقع الممارسة، فنكاد نجزم أن هناك نماذج من التلميذات والتلاميذ على جانب كبير من الجدية والأخلاق والانضباط والالتــزام، لذلك، فما تقدمه “شبه الصحافة” من عينات، ما هو إلا إساءة صريحة للمدرسة العمومية التي تستحق صحافة مواطنة و شريكة، لا “شبه صحافة” تظهر كل موسم “بكالوريا” لتصطاد وترحل بمجرد أن يسدل الستار عن الامتحانات، كما أن صناعة محتوى معين في موسم البكالوريا، ليس بالضرورة أن يرتبط ارتباطا وثيقا بالمترشحات والمترشحين، فبالإمكان استغلال هذا الموسم مثلا، لتوجيــه البوصلة نحو مشاكل الشغيلة التعليمية ذات الصلة بالامتحانات، من قبيل العنف المرتبط بالغــش ومدى توفر شروط التحفيز، خاصة فيما يتعلق بالتعويضات المرتبطة بمهمات المراقبة والتصحيح والمسك، كما يمكن توجيه البوصلة نحـو البرامج الدراسية ومدى نجاعة المنظومات التقويمية المعتمدة في امتحانات البكالوريا وغيرها.

والمسؤولية بالطبع، يتحملها بدرجات ومستويات مختلفة، بعض مدراء النشر ورؤساء التحرير الذين يوجهون الصحافيين إلى محيط مراكز الامتحانات لأخذ تصريحات منتقاة بدقة وعناية لصناعة محتوى تتوفر فيــه شروط الإثـارة والمتابعة، ويسمحون بعرض مواد غاية في الرداءة والبؤس والانحطاط، وهذه جريمة ناعمة في حق المتلقي/المشاهد/المستمع الذي يفترض التعامل معه بما يلــزم من الاحترام والتقدير، بمده بمحتويات رصينة وهادفة، من شأنها الارتقــاء بمستوى الأذواق والتربية والأخلاق والقيم، كما يتحملها “الصحافي” ذاتــه، الذي يوجه الميكروفون لكل من هب ودب، لإرضـاء أهواء رؤساء مطبعين مع الإثــارة حتى النخـاع، كما يتحملها المتلقي الذي ينحني أمام جائحة العبث وينصاع بسرعة أمام سلطة التفاهة أينما حلت وحيثما وجدت، وهي قبل هذا وذاك، مسؤولية الأجهــزة المكلفة بضبط المشهد الإعلامي، ونخص بالذكر “المجلس الوطني للصحافة” الذي له من الأدوات والآليات القانونية والضبطية، ما يجعله يطهر واقع الممارسة من كل الشوائب التي تؤسس لمفهوم جديد للصحافة مرادف للإثـارة والتفاهة والانحطاط، وقبل الختم، نرى أن “الصحافة” هي سلطة لايمكن تصورها، إلا في ظل مفردات الرقي والموضوعية والمصداقية، ولا يمكن أن استحضارها، إلا في ظل محراب النبل والرقي والإشعاع.

وبقدر ما نلح على ضرورة ضبط المهنة وصون أخلاقياتها، بقدر ما نؤكد على ضرورة الاهتمام بالتكوين المستمر لمنتسبي الصحافة والعناية بأحوالهم المادية والاجتماعية، وعلى مستوى الاختيار، فالمنابر الإعلامية بكل انتماءاتها، تتحمل مسؤولية قانونية ومهنية وأخلاقيـة، في اختيـار مواردها البشريـة وشبكة مراسليها وفق معايير علمية وتواصلية وأخلاقية وقيمية، وفي جميــع الحالات، فالصحافي – ليس فقط – بطاقة مهنية أو بطاقة نقابية أو ميكروفون .. هو أيضا عين ثاقبة وقلم رصين قادر على استيعاب نبض المجتمع ورؤية متبصرة للمجال .. هو سلوك وقيم وأخــلاق …وفي خاتمة المقال نقــول: إذا عاتبنا الصحافة أو بعضا من الصحافة عبر هذا المقال، فعتابنا لا يخرج ولن يخرج عن إطار “معاتبة الأحبـاء والأصدقاء”، وعــزاؤنا في كل ذلك، أننا نتوق إلى صحافة “مهنية” و”أخلاقية” تقينا من حرارة التفاهة والبؤس والانحطاط، وترتقي بمستوى القيم والأخلاق والأذواق وتسهم بروح مواطنة في بناء “المغرب المأمول”، وتكون للدولة “درعا حصينا” في رحلة البحث عن الكرامة والسيادة وإثبـات الذات …

الاخبار العاجلة