الحراك النقابي رهين بالحراك الثقافي

3 يونيو 2024آخر تحديث : الإثنين 3 يونيو 2024 - 7:53 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
الحراك النقابي رهين بالحراك الثقافي

بقلم: ذ. محمد بادرة

الحركة العمالية المغربية وازمة الفراغ الثقافي
عرف المغرب نضالات عمالية كثيرة وجد متنوعة ومتقدمة ولعبت السياسة الاستعمارية خلال فترة الاحتلال دورا رئيسيا في نشأة ونمو وانتشار (الوعي الطبقي) وسط (البروليتاريا المغربية) كما عملت الحركة الوطنية على استثمار الشعور الوطني لذى الطبقة العاملة المغربية وهكذا نجحت الحركة في توجيه النضال الطبقي للعمال المغاربة ليصب في بوتقة النضال السياسي ويأخذ العمل الوطني بعدا اجتماعيا يتمثل في الكفاح الوطني والنضال الاجتماعي ضد العبودية والاستغلال والاستيطان والهيمنة الاستعمارية وهو ما يفسر الى حد كبير بروز ظاهرة التسييس المبكر للبروليتاريا المغربية. وبعد الاستقلال نمت طبقة بورجوازية جديدة ارتبطت مصالحها بالاقتصاد الراسمالي العالمي ولم تعد النضالات النقابية نابعة من التحرك السياسي وانما اصبح يؤطرها الطابع الاجتماعي – الطبقي الذاتي للعمال ثم لتظهر بعد ذلك تناقضات بين هذه الفئة البورجوازية نفسها بينها وبين الطبقة العمالية وهو ما اكده الزعيم الاستقلالي الراحل علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية بقوله (لا نعتبر الكفاح النقابي الا جزءا من الكفاح العام الذي يرمي لتنظيم الامة وحشدها لحماية استقلال المغرب “الاقتصادي اساسا” .. وانما نعتقد انه ليس هناك كفاح غير الكفاح من اجل الاستقلال والحياة الحرة السعيدة في وطننا الذي هو وطن سائر طبقاتنا ) وهذا يعني ان الحركة الوطنية لم تكن تتحكم سياسيا وتنظيميا في مجموع الحركة العمالية المغربية.
لقد كان للطبقة العمالية المغربية في الماضي القدرة والحركة والارادة النضالية والفكرية على ممارسة حقوقها السياسية والاجتماعية ونجحت في كثير من المعارك النقابية و النضالات الاجتماعية بل انها خاضت العديد من المعارك والصراعات السياسية سواء في فترة الاحتلال او بعد الاستقلال من اجل الدفاع عن مصالحها وحقوقها ومكتسباتها وكانت حرية التنظيم النقابي احد المطالب الرئيسية التي ناضلت من اجل تحقيقها اليد العاملة المغربية غير ان ما كان غائبا في نضالات البروليتاريا المغربية هي الحياة الثقافية للطبقة العاملة المغربية حيث لم تبني الحركة العمالية المغربية خلال هذه العقود الطويلة مدرسة للتأطير الثقافي والنقابي او تقيم قاعدة ثقافية من المفكرين والمثقفين الخاصين والمختصين بالشأن النقابي المناضلين من اجل بلورة وصيانة الشخصية العمالية ككيان اجتماعي وثقافي كما انها لم تستمل الكثير من المثقفين التقليديين لصالحها في (صراع المواقع الطبقية) او في تغيير علاقات الهيمنة القائمة في النظام الاجتماعي الكائن.
ان تقوية وتعزيز الحياة الثقافية للطبقة العمالية يساعد على تشكيل وعي نقابي متحرر وبناء ثقافة عمالية جديدة قادرة على مقاومة كل اشكال الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي خصوصا وان الوضع السياسي والاجتماعي الحالي تهيمن عليه القوة الرأسمالية وتغولت فيه الثقافة الليبرالية الجديدة وهذه الاخيرة جاءت بمشروع ثقافي وتربوي وتعليمي يخدم نظامها الاقتصادي – السياسي واستعملت النيولبيرالية ادواتها الثقافية لتشكيل وتحويل المجتمعات وقولبتها على شاكلة صورتها الضعيفة والهزيلة امام قوة وجبروت علاقات السوق الرأسمالية المتوحشة. ولمقاومة هذا النظام الاقتصادي القاتل للعدل الاجتماعي كان لابد للطبقة العمالية من التسلح بالثقافة التحررية التي تنبع من عمق النضال النقابي في فضح الافلاس السياسي والاخلاقي والتربوي والتعليمي لليبيرالية الجديدة وسبق لأنطونيو غرامشي ان دعا الى ضرورة الاهتمام بمجال تربية وتثقيف العمال والمستخدمين والموظفين بوصفه ميدانا حاسما من “المجتمع المدني”. فلماذا لم تنجح “البروليتاريا” المغربية في تعريف نفسها وابراز هويتها الاجتماعية والثقافية لتفسير اوجه التمييز والصراع بينها وبين جماعات المصالح الاخرى؟ واين دور المثقفين البروليتاريين للدفاع عن هذه الطبقة المحرومة اجتماعيا؟ بل واين القادة النقابيين التقدميين الذين “يقودون” الصراعات والصدامات او النزاعات ويجلسون على طاولات الحوار “نيابة” عن العمال والمستخدمين؟ اين الفاعلين والناشطين النقابيين لإبراز قوة تأثير الحركة العمالية بعيدا عن الافكار النمطية والتقديرات الذاتية؟ اين الاحزاب العمالية الراديكالية “المتغلغلة” داخل الاوساط العمالية في المؤسسات والشركات والمعامل؟؟ اين النقابات العمالية المؤطرة للعاملين في قطاعات الانتاج ودورها في تعليم وتثقيف العمال والعاملات؟ بعد “تحسين” الوضع المادي اين تحسين الوضع الثقافي للعمال؟
ان المنصات الخطابية التي تقام اثناء الاحتفال بالعيد الاممي للعمال ليست وسيلة لتغيير وعي العمال او تحسيسهم بأوضاعهم الاجتماعية المزرية ولا لتحرير وعيهم “الشقي” – ان الاجتماعات واللقاءات الدورية للفروع النقابية او التجمعات التعبوية في المقرات النقابية او في اماكن العمل لا يمكنها ان تبلور وعيا نقابيا يزيد من حدود التفكير في المصالح الطبقية والمهنية للعمال. ان الفاعلية ليست في التجمهرات والخطابات الرنانة او في المسيرات والاحتجاجات(وحدها) لكن التحرر يتم بالوعي الثقافي والطبقي الذي يحرر العمال من اسرهم الاجتماعي المفقر والمدقع ..ان العمال يأملون ان يروا انفسهم جزءا لا يتجزأ من منظومة العمل كما يأمل العامل ان يصبح منتجا يكتسب ادراكا لدوره في عملية الانتاج من المعمل الى السوق الى الوطن ككل …هذا الفهم الشمولي لدوره وقيمته وممارسته لا يمكن ان يستوعبه هذا العامل الا عن طريق “مدرسة” نقابية تعلمه وتلقنه ثقافة تحررية تساعده على ادراك مسؤولياته وواجباته تجاه طبقته وفي فضح الافلاس السياسي والاخلاقي والتربوي لليبرالية الجديدة.
ومن المعتقدات الخاطئة في صفوف العمال والمستخدمين بل وحتى الموظفين منهم ان الحاجة الثقافية هي حاجة غير ملحة يمكن تأجيلها او حتى استبعادها دون ان يكون لذلك تأثير سلبي على معيشة حياتهم وعلى استمرار وجودهم لأنها (الثقافة) حاجة بدون الحاجة اليها وان اولوية الاولويات في نظرهم هي السعي لتلبية الحاجات الاساسية للعيش وتحقيق الحياة الطبيعية التي تساعد على البقاء والوجود الطبيعي والفيزيائي للإنسان واما الحاجة الى الغذاء الثقافي فيكفي الصيام عنه دون ان يصيب الجسم ضمور وفناء والثقافة اولا واخيرا ليست في مرتبة الحاجات الضرورية والاساسية التي يناضل من اجل تحقيقها العامل والفلاح وحتى الموظف !! وان الفراغ الثقافي لا يستطيع ان يملا الفراغ البيولوجي والفيزيائي لجسم الانسان هكذا يعتقد من “يكافح” من اجل لقمة العيش لا لقمة الروح والعقل؟؟
ان فصل الحاجات الاساسية للحياة الطبيعية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتزاوج عن الحاجات الاجتماعية او الثقافية هو فصل اساسي بين العناصر الرئيسية للحياة و بين “الشكليات” الكمالية للحياة. فالحاجات الثقافية في نظر فئة واسعة من العمال هي غير ضرورية لاستمرار حياتهم ووجودهم !!! غير ان الحياة هي غير ذلك فالإنسان ليس طبيعة حيوانية وانما هو حركة وفعل ونشاط او انشطة وعمليات عقلية كالتفكير والادراك والتواصل وبقاؤه كفرد داخل جماعته ومجتمعه مرهون ضمن حدود تواصله ومشاركته ومسايرته او معارضته للسلطة الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والسياسية القائمة وهي السلطة التي تفرض على افرادها “ثقافة” ونعتقد ان هناك دوافع داخلية لذى العمال نحو الثقافة وفي نفس الان هناك موانع خارجية تدفعهم نحو “التجهيل” او موانع الفصل بين العمل والثقافة وهكذا ظهرت الكثير من المعيقات التي تعيق ظهور الوعي الثقافي والفكري للطبقة الشغيلة او الحركة العمالية المغربية ومنها:
معيقات بنيوية مرتبطة بالنظام الاجتماعي – الاقتصادي الراسمالي حيث كلما ازداد تحسين الدخل عند الموظفين والعمال الا وازدادت وثيرة الاقتناء والاستهلاك الضروري وغير الضروري وهي نزعة غير عقلانية موجهة بقوة نظام السوق الحرة عبر تكثيف استخدام وسائل الاعلام الجماهيرية الى المستهلكين من اجل التملك والاستهلاك وكل الاعلانات التجارية التي تغزو قنواتنا الاعلامية تقوم على سياسة التسوق واجتذاب الطبقات الدنيا من العمال والمستخدمين وصغار الموظفين حتى يكونوا ضعفاء منقادين ومقيدين لتجرهم العلامات التجارية نحو مزيد من الاستهلاك مع ان بإمكانهم ان يستثمروا “الفائض” المادي للدخل في مجال التكوين الذاتي او تقوية الاعلام النقابي او تطوير الملكات الذاتية في الابداع وفي مجال الكتابة والادب العمالي دون ان يتأثر مستوى المعيشة في المأكل والملبس وغيره. ان النزوع للاستهلاك هو نزوع لابتلاع جوهر الانسان ككائن ثقافي والانسان “الاستهلاكي” كما يقول اريك فروم هو شبيه بالرضيع الابدي الذي لا يكف عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة، انه الانسان المدمن على ارضاء متطلباته الفيزيولوجية وليس العقلية والحضارية وهكذا فان هوية المستهلك المعاصر حسب اريك فروم تتلخص في الصيغة التالية:
انا موجود بقدر ما املك وما استهلك
معيقات سوسيو- ثقافية تحول دون بروز نخبة عمالية مثقفة ودون تحسين المناخ الثقافي وسط افراد “البروليتاريا ” المغربية هذه الاخيرة وان كانت لها رغبة ودافعية داخلية نحو التكوين والتعلم والتثقيف الا ان هناك موانع خارجية تتغلب في اكثر الحالات على الدوافع الثقافية خصوصا حينما تكون هذه النشاطات الثقافية جد مكلفة ولا سبيل لإشباعها وان الصعوبات المعيشية بما فيها ارتفاع اسعار المواد الاساسية للحياة والخلل في نظام الاجور والمداخيل كلها وغيرها عوامل ومعيقات لا تخلق للمجتمع العمالي الارض الخصبة لنمو وازهار الثقافة العمالية وانتشارها في صفوف الشغيلة.
كيف لأسرة العامل او العاملة وهي غير قادرة على تحمل تكاليف تعليم ابنائها ان توفر لهم خدمات ثقافية وترفيهية؟ كيف يمكن ان نلبي الحاجات الثقافية للعمال في غياب بنيات ومراكز ثقافية داخل مؤسسات العمل؟ كيف يمكن ان يرتقي العامل من حيوانيته (الاكل) الى انسانيته(العقل) في غياب سياسة ثقافية حكومية لمحو الامية الهجائية والثقافية وغياب مشاريع وبرامج لتلبية الاحتياجات الثقافية او على الاقل الحاجة الى التسلية والترفيه كما في المجتمعات الرأسمالية ؟؟ كيف يمكن للعامل ان يكون فاعلا ثقافيا وناشطا اعلاميا وحقوقيا لا يفصل بين الثقافة والعمل ولا يفصل بين العاملين في الانتاج والعاملين في الثقافة ويملكون الاسلحة الثقافية للدفاع عن العمل وعن الحق النقابي والوقاية من النزاعات الجماعية للعمل وتسويتها وممارسة حق الاضراب والدفاع عنه؟
انه يبدو ان عمالنا ما يزالون بحكم ظروفهم المعيشية المزرية لا يولون اهمية للشأن الثقافي بل منهم من يتعامل مع هذا المعطى بشيء من الاستخفاف وتتأكد لنا قلة الاهتمام بالشأن الثقافي من خلال انخفاض حصة الثقافة والابداع من مدخول الاسر العمالية بل ان الفئات الاجتماعية الصغيرة والمتوسطة من قبيل رجال ونساء التعليم والصحة والوظائف العمومية تنفق ما تنفق من اجل تعليم ابنائها وتوفير شروط الاستمرار لمتابعة الدراسة الجامعية او المهنية وفي احسن الحالات يتم توفير جزء اخر في مجال الترفيه والتسلية والسياحة الداخلية وعند فئة العمال تنتفي هذه “الميزة” لانخفاض دخلها وبالإجمال انه يمكن القول ان الحاجات الاساسية يزداد الانفاق عليها بازدياد الدخل في حين ان الحاجات الثقافية يقل اللجوء وهو ما يسبب في استمرار فقر هذه الطبقة واستمرار دونيتها فالتكوين والتربية والتثقيف عناصر اساسية ومهمة للقضاء على فقر الدخل فهي تزيد من قدرة الشخص على الحصول على الدخل والتحرر من فقر الدخل ايضا وكلما زاد المد الذي يتحقق بفضل النمو الثقافي اصبح من المرجح ان تتوافر لمن يتوقع حالة من الفقر فرصة افضل للتغلب على ما يعانيه من عوز. ونظرا لأهمية هذا الترابط قامت العديد من البلدان (الهند – كوريا – وسنغافورة ..) في سبيل توسيع نطاق الفرص للرفع من الدخل عن طريق توفير خلفية اجتماعية مساندة بما فيها الرفع من مستويات تعلم العمال وتثقيفهم مهنيا وعلميا مما ساعد على توفير الفرص الاقتصادية لجميع افراد المجتمع امام اي اضطراب او توقف المعامل.
على كل قوى المجتمع المدني وعلى كل القطاعات الحكومية الوطنية الدفع بتنمية الحياة الثقافية لكل افراد المجتمع العامل، والفقر الضارب اطنابه وسط الشغيلة العاملة له مردود سلبي في ميدان الفكر والثقافة لان الفقر الاقتصادي يؤدي في اغلب الاحيان الى فقر ثقافي والى امية ثقافية وعليه وجب على مجتمعنا ومؤسساتنا ونخبنا ان تشجع الثقافة بمفهومها العام وسط الشغيلة العمالية وليس الثقافة كمفهوم تجاري سلعي لا غاية منه الا الربح ومن الخسارة ان لا يتمتع العمال والعاملات بحياتهم الثقافية والا فستتعرض حياتهم الانسانية في مشربها ومأكلها وايوائها ولغتها وعاداتها وقيمها الانسانية والحضارية للخطر … والخطر كل الخطر في هذا الفراغ الثقافي الذي ينخر الجسم العمالي المغربي. ان الثقافة هي الهيكل الاساسي للحضارة في مختلف مظاهرها وبنية المجتمع ليست بنية اقتصادية واجتماعية قائمة على كمية المتع والسلع المستهلكة مفرغة من البنية الانسانية بل هي اولا قيم فكرية واجتماعية واخلاقية وجمالية وهذا ما يفضح حقيقة واقع الطبقة العمالية المتسم بضحالة الثقافة وكثافة الفقر في حياتهم الاجتماعية والانسانية.
ختاما نقول ان المشهد النقابي الحالي في حاجة ماسة الى حراك ثقافي.

الاخبار العاجلة