أزمة الجامعة من ازمة المجتمع

29 يونيو 2022آخر تحديث : الأربعاء 29 يونيو 2022 - 9:09 صباحًا
admintest
كتاب وآراء
أزمة الجامعة من ازمة المجتمع

ذ: محمد بادرة

في السنين والعقود الاخيرة تزايد الاهتمام بموضوع ربط وظائف التعليم العالي والجامعي بمجالات التنمية لدرجة ان تقييم فعالية هذا النظام التعليمي اصبح يعتمد على مدى ملاءمة اهدافه لمتطلبات التنمية الشاملة ومدى قدرته على مواجهة التحديات التي تفرزها عمليات التنمية. فالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتكنولوجية تستدعى حصول تحول كبير في رسالة التعليم العالي والجامعي بعد ان اصبح مطلوبا منه مواكبة هذه المستجدات ومواجهة كل التحديات والرهانات واستيعابها وبات مطلوبا من مؤسسات التعليم العالي المساهمة في حل المشكلات اليومية للمحيط والمجتمع في شتى المجالات بما تحتويه من مصادر الطاقة البشرية المميزة علميا والقادرة على التفاعل ايجابيا مع جميع التغيرات وانه اصبح اليوم العنصر البشري هو الاداة الفعالة للتغيير والتنمية الشاملة.
فهل استطاعت المشاريع “الاصلاحية” التي مست قطاع التعليم العالي والاجراءات التنظيمية الحديثة من مواجهة التحديات الداخلية الكامنة في مؤسسات التعليم العالي ذاتها؟ وهل تمكنت من مواجهة التحديات الخارجية التي يواجهها مجتمعنا المعاصر؟ وهل استطاعت هذه المشاريع والاجراءات “الاستعجالية” المعتمدة لإصلاح هذا القطاع من فحص شامل لأنظمتها التربوية بحثا عن مواقع الخلل والجمود؟ وهل قامت بمراجعة جذرية وشاملة في افق دمج هذه الاصلاحات في سياق التحولات والتحديات المعاصرة؟
انها تحديات متعددة ومتنوعة تتركز حول مجموعة من العوامل والمتغيرات، ومن بينها:
التحدي الاول: قدرة المؤسسات الجامعية على تقديم تعليم عصري متطور قادر على المواءمة مع متطلبات المجتمع والتنمية، واحداث التوازن بين متطلبات الفرد ومتطلبات المجتمع، وكل هذه المهام من طبيعة الجامعة الحديثة فهي (تمثل مجتمعا علميا يهتم بالبحث عن الحقيقة، وان وظائفها الاساسية تتمثل في التعليم والابحاث وخدمة المجتمع) Epifania-Resposo
التحدي الثاني: قدرة المؤسسات الجامعية على التكيف مع المتغيرات العلمية والتكنولوجية السريعة التطور من :- نشر الوعي العلمي والتكنولوجي البناء – التوسع في تدريس المسافات العلمية والتكنولوجية – المساهمة في وضع السياسات الوطنية ذات العلاقة بالعلوم والتكنولوجيا- تطوير البنى التحتية للبحث العلمي .. وهذا ما سيمكن الجامعات الوطنية من تطوير القدرات الذاتية التكنولوجية وتقليص حجم التبعية والاعتماد على المصادر الخارجية.
التحدي الثالث: قدرة المؤسسات الجامعية على تجاوز مشكلة التأطير او القدرة على التوازن بين وظائف التدريس والبحث العلمي. فالبحث العلمي وتأطير الكوادر والطاقات البشرية يعدان من العوامل الهامة في عملية التنمية. وكما عهد الى الجامعة بمهمة التكوين والتعليم التي تؤدي الى انتشار المعرفة والحفاظ على الثقافة والارث الرمزي للامة، فقد انيطت بها ايضا مسؤولية الابحاث التي تعد الاداة الرئيسية لإثراء المعرفة وتقدمها .
التحدي الرابع: قدرة المؤسسات الجامعية على تجاوز مشاكل التمويل ومحدودية الموارد المتاحة نظرا لأثرهما على التجهيزات والوسائل التعليمية الحديثة التي تعد اليوم الاداة الرئيسية لاكتساب المعارف واللحاق بالركب العلمي الحديث.
هذه التحديات والادوار الجديدة التي انيطت بالتعليم العالي – وغيرها- تسائل مؤسساتنا الجامعية عن قدرتها على مواجهة هذه القائمة الطويلة من التحديات التي لها ارتباط مباشر بكفاءاتها الداخلية والخارجية وخصوصا ملاءمة او مواءمة تعليمنا الجامعي مع متطلبات المجتمع والتنمية. وقاد الاعتقاد بأهمية التعليم الجامعي في التنمية الشاملة الى اعادة النظر في واقع تعليمنا العالي خاصة في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم تحولات كبرى في مجالات العلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة..
ولإصلاح مؤسساتنا الجامعية حتى تقوم بدورها التربوي والعلمي وفي التكوين والتأطير والبحث قدمت العديد من مشاريع “الاصلاح”، وانجزت الكثير من التقارير والبحوث وعقدت مجموعة من اللقاءات التشاورية.. لكن مساحات التغيير والتجديد في القطاع ما تزال ضعيفة.
رأى الاستاذ محمد وقيدي ضرورة وضع استراتيجية واضحة للبحث العلمي وادماجه ضمن مسار تنمية المجتمع وهذا الشرط (هو الذي سيقود الى تبين اهمية دور البحث العلمي في التقدم المنشود وهو كذلك الشرط الذي سينبه الى ضرورة تطوير المؤسسات التي تكون لها وظيفة البحث العلمي واهمها الجامعة او مراكز البحث العلمي ذات الصلة الوثيقة بها)
وثاني الشروط في نظر الكاتب هو( سن سياسة تكوينية مستمرة لتكوين ذوات عالمة قادرة على ممارسة البحث بدل الاقتصار على المهمة التربوية)
وثالث الشروط حسب نفس الكاتب هو(امداد المؤسسات الجامعية والمؤسسات المختصة بالبحث العلمي بما هي في حاجة اليه من تجهير ووسائل ملائمة لصنف البحث الذي تختص فيه ومدها بالتمويل اللازم لسير البحث فيه)
هكذا وفي ظل ما تشهده عدد من مؤسساتنا الجامعية المغربية من انخفاض في مستوى الكفاءة والنوعية والازدياد المطرد لعدد الطلبة مقابل الانخفاض في عدد المؤطرين وضعف التمويل الحكومي ونقص في التجهيزات والوسائل وما صاحب ذلك من اختلالات عديدة ومتشعبة على المستوى البيداغوجي والعلمي .. قامت الوزارة الوصية بالقطاع بتقييم وفحص انظمتها التربوية بحثا عن مواقع الخلل فتولدت لديها قناعة مؤداها ان الجامعة لم تعد قادرة على الاضطلاع بمسؤوليتها وادوارها الجديدة التي افرزتها المتغيرات العالمية وهو ما استوجب مراجعة جذرية وشاملة للنظام الجامعي فاندفعت الادارة المركزية الى تقديم مشاريع تلو المشاريع لتكييف واقع هذه الجامعة المغربية مع المستجدات العالمية ودمجها في سياق هذه التحولات الجديدة.
ومن بين هذه الاصلاحات ما اصطلح عليه بنظام LMD (ليسانس – ماستر- دكتوراه) ومس هذا الاصلاح محتويات البرامج البيداغوجية وطرق التوجيه والتقويم والانتقال بين المستويات.. لكن لم تساهم اجراءات هذا الاصلاح الجديد في الحد من مشكلات الجامعة المغربية:
فلاهي ساهمت في الحد من مشكلة تزايد اعداد المتدفقين على الجامعات، ولا هي ساهمت في خلق مبدا تساوي فرص الالتحاق بمختلف مؤسسات التعليم العالي سواء ذات الاستقطاب المفتوح او غيرها، ولا هي ساهمت في الحد من مشكلات التسرب والهدر مما ادى الى تفاقم مشكلات اخرى اعاقت تطور التعليم العالي (زيادة الاعداد دون زيادة في التمويل والتجهيزات والوسائل – زيادة الاعداد لا يتناسب وعدد المؤطرين-..) وهو ما خلق عدة اختلالات وتحديات اضعفت التكوين والبحث العلمي وشكلت ضغطا على الطالب والاستاذ معا
لا لعلاج العرض دون علاج المرض
يعرف عالم اليوم بالتطورات السريعة والابتكارات العلمية الدقيقة التي يعجز الانسان عن ملاحقتها، لذا وقع على طلبتنا الذين يلتحقون بأعداد هائلة بالجامعات والمعاهد والمدارس العليا امر ملاحقة هذا العصر المتطور، ووقع على اطرنا وكوادرنا الجامعية مسؤولية اعدادهم وتأطيرهم للمشاركة في مسايرة هذا العصر مما يعني اننا بحاجة الى اطر اكاديمية واساتذة جامعيين وخبراء وعلماء من كل التخصصات وبأعداد كافية ويمتلكون الكفايات والمؤهلات الفكرية والعلمية والبيداغوجية حتى يكونوا باحثين ودارسين في نفس الان.
ما يلاحظ اليوم في جامعاتنا هو النقص الكبير في عدد الاساتذة المؤطرين بالمقارنة مع عدد الطلاب مما يسبب خللا في ميدان تأطير البحوث العلمية وهذا المشكل يرهن البحث العلمي الذي يعد الوظيفة الاساسية للجامعة بعد التكوين وهوما يجعلنا نواجه تحديا مخيفا فإضافة الى التوسع العددي الكبير للملتحقين بالتعليم العالي نجد نقصا في التأهيل العلمي والبيداغوجي، و ضعفا في برامج التكوين المستمر للأساتذة الجامعيين، و سوء للظروف المادية والمعنوية للأستاذ الجامعي، و غيابا للحوافز، وضبابية سياسات التوظيف في القطاع، و تراجع الامكانات البحثية بفعل سياسة الحد من الانفاق.
وكانت النتيجة ان طغت وظيفة التدريس على وظيفتي البحث والتأطير حتى انه لم يعد لذى الاساتذة الجامعيين الوقت الكافي للتفرغ للمكتبات او للتأليف او الابداع، كما انه لم يعد لديهم الوقت الكافي لتأطير ورعاية الطلبة الباحثين بل ان معدل الاطلاع لدى الباحث اصبح منخفضا جدا واكثر منه ان معدل النشر العلمي صار اكثر انخفاضا الى درجة انه رغم الطاقة البحثية الكبيرة المتاحة ورغم ما يتوفر لدينا من العلماء والباحثين المتميزين فلا تجد جامعة مغربية او مركزا بحثيا ضمن قائمة الاوائل في البحوث العلمية في العالم.
و امام هذا الخصاص المهول في مجال الابداع العلمي تلجا بعض المؤسسات الجامعية الخاصة، وبعض مراكز البحث الى “الاستنجاد” او الاستعاضة بالخبرات والكوادر الاجنبية فتحولت الابحاث عند هذه المؤسسات الى منطق سلعي تستورد الابحاث وتستورد الكوادر الاجنبية كما تستورد السلع وكان بلدنا خالية من الكفاءات العلمية المؤهلة، فيأتي اولئك “الخبراء” وهم على عجلة من امرهم لكسب الاموال التي توضع تحت تصرفهم، وفي معظم الحالات تخلص ابحاثهم الى نتائج غير دقيقة وتوصيات سطحية لان الهدف من وراء اجرائها مادي بحث ومن شان ذلك اذا استمر وازدادت وثيرته ان يحول بلدنا الى سوق استهلاكية لأبحاث اجنبية تستورد اليه الابحاث كسلعة بغض النظر عن جودتها وملائمتها للمجتمع.
لا جدال في ان العلاقة قوية و التأثير متبادل بين العلم والوضع السياسي والاجتماعي والثقافي لان الابداع الثقافي والعلمي هو نتاج للواقع الاجتماعي بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية وانه انعكاس لمجمل القيم والمفاهيم والعلاقات التي يفرزها هذا الواقع او ذاك. وما نراه اليوم من استمرار تراجع دور البحث العلمي والتفكير العلمي هو ترجمة لتأثير هذه الاوضاع عليه
اذا كانت المؤسسة الجامعية او المراكز البحثية هي ذاكرة المجتمع وعقل الامة فان هذه الذاكرة وهذا العقل ما يلبث ان ينمحي ويزول ما لم تتوافر الظروف الموضوعية لبقائه ثم نمائه و تقدمه والتي ترتبط بطبيعة النظام السياسي والاجتماعي وبعلاقات القوى بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، ودور كل منها في انتاج الثروة المادية والرمزية ونصيبه منها، وفي مجمل البنيان الاجتماعي الذي يشكل نسقا من العلاقات التي تعكس توجهات هذا النظام او ذاك.( د. نبيل سليم)
هذا ينقلنا الى القول ان انحسار دور الجامعة وتدهور التعليم بشكل عام يرتبط اشد الارتباط بطبيعة النظام الاجتماعي الذي نعيشه، ذلك انه عندما تنحسر قيمة العمل وتسود قيم الربح السريع، وعندما يتم الحصول على الثروة عبر وسائل الغش، وعندما تعلو مصالح فئات محدودة على حساب مصلحة الوطن، وعندما تهبط قيمة العلم ويضعف الانتماء الاجتماعي وتتراجع قوى الابداع والتقدم فان المؤسسة الجامعة ستتحول الى قبور ولحود لأبناء المجتمع العلمي وهو حال مقت يتطلب الخلاص منه تطوير الحرية السياسية والمدنية داخل المجتمع.
ليس من باب المبالغة اذا قلنا بان الازمة التي تعيشها جامعتنا هي ازمة اختيار سياسي واجتماعي واضح للدولة، مما ادى الى ازمة افتقار الى تصور اصلاح شمولي واضح للجامعة، فالجامعات وجدت لتكون محركات عبقرية لكفاءة المجتمع البشري الحر، تقوم بدور اساسي مؤثر في صنع تقدم المجتمع تلبية لأسباب اجتماعية ورغبات اقتصادية ، ثم تجمع وتمد الجسور بينها وبين المجتمع فهي خادمة محيطها الطبيعي والتاريخي والجغرافي والثقافي.. اذن فالتأثير بين الجامعة او بالأحرى بين العلم والوضع السياسي والاجتماعي والثقافي قوي وحاضر، وما نراه اليوم من استمرار تراجع دور الجامعة والبحث العلمي هو ترجمة لتأثير هذه الاوضاع على المؤسسة الجامعية والمراكز البحثية.
ان ازمة الجامعة هي جزء من ازمة المجتمع ككل وان اعادة تشكيل المجتمع على اساس من تقديس قيمة العلم والعمل وتكريس مبدا الحقوق الاجتماعية، وتأكيد الديموقراطية بين الجميع كفيل بان يغير من طبيعة البنيان الاجتماعي وان يخلق الظروف الموضوعية اللازمة لتقدم العلم وازدهاره والرفع من دور الجامعة.
فلا علاج لازمة الجامعة دون علاج الاوضاع السياسية والاجتماعي.

الاخبار العاجلة